منذ الحرب الصينية الفيتنامية في مطلع عام 1979، وبعد وفاة ماوتسي تونغ بثلاث سنوات والقضاء على ما سمي “عصابة الأربعة” وبروز نخبة برنامج التحديثات الأربعة في الصين، دخلت الصين مرحلة جديدة تقوم على الأسس التالية:
أ- الحنين التاريخي للمجد الصيني القديم، وتجسد ذلك سياسيا في التأكيد على “الهوية القومية الصينية” ومزج النزعة الاشتراكية بالحس القومي وهو ما تتضمنه نظرية الصعود (التنمية) السلمية.
ب- كان من تداعيات النقطة الأولى -المجد التاريخي- تنامي فكرة استعادة “الصين الكبرى” عبر خطوات عدة أبرزها:
1- استعادة هونغ كونغ من بريطانيا عام 1997.
2- استعادة جزيرة مكاو من البرتغال عام 1999.
3- انتزاع اعتراف من أمريكا “بصين واحدة” وسحب الاعتراف الأمريكي بتايوان كخطوة اعتبرتها الصين مهمة لمواصلة تحقيق سياسة صين واحدة.
4- تنامي التواصل بين الصين والأقليات الصينية في منطقة آسيا.
ويبدو أن موضوع “استقلال تايوان” يمثل العقبة الأكثر عسرا أمام مشروع الصين الكبرى، غير أن التأكيد الرسمي من هيئات الحكومة والحزب الشيوعي وتوجهات الرأي العام الصيني على “أولوية استعادة تايوان للصين الأم يتضح وبجلاء من أن هذا الموضوع هو الأكثر تكرارا في الأدبيات السياسية الصينية الرسمية طبقا لدراسة تحليل مضمون لآلاف الوثائق (من بيانات وخطابات وتصريحات…الخ صينية) خلال الفترة من 1949 إلى 2017، وتم نشر الدراسة في عدد من المجلات الأكاديمية.
ويبدو أن المؤتمر القادم للحزب الشيوعي الصيني في خريف العام الحالي (الأرجح أن يكون في نوفمبر أو أكتوبر القادمين) سيضع موضوع استعادة تايوان كقضية مفروغ منها وحشد كل الطاقات لتأكيد هذه الإستراتيجية، والعمل على إقناع كل دول العالم، ومنها تايوان، أن هذا الموضوع ليس تكتيكا سياسيا عابرا، بل هو خيار استراتيجي لا رجعة فيه بغض النظر عن أداة تحقيقه.
يبدو أن الموقف الصيني القادم سيكون نقطة توتر دولي لها مقدمات – كما جرى في أوكرانيا التي كانت مقدماتها في 2014- لكن طبيعة نهاياتها وبداياتها قد تتأثر بنتائج الحرب الأوكرانية. ذلك يعني أن على العالم أن يستعد لأزمة جديدة ميدانها الشرق الآسيوي.
ما هي المسارات المحتملة للصراع على تايوان:
هدف النشاط الدبلوماسي الصيني للمرحلة القادمة سيكون ضمان تعرية تايوان من فكرة الاستقلال عبر تجريدها من الاعتراف الدولي بها، ومن المعروف أن تايوان لا تحظى حاليا إلا باعتراف حوالي 7% فقط من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهي 14 دولة (منها الفاتيكان المراقب في الهيئة الدولية)، واغلب هذه الدول جزر صغرى.
ناهيك عن أنها لم تعد موجودة في أي من منظمات الأمم المتحدة، وتقتصر على عدد محدود من المنظمات الدولية، التي يغلب عليها الطابع التجاري أو التقني أو الرياضي، ويمكن القول إن الصين حققت اختراقات كبيرة في مجال تعرية تايوان من الشرعية الدولية، وهو ما يشكل مقدمة لجعل إجراءات ضمها لاحقا (سلما أو حربا) مشروعا في ظل فقدانها القبول الدولي القانوني، وقد نجحت الصين في هذه الدبلوماسية من خلال تهديد بكين لكل من يتعامل مع تايوان بقطع الاتصالات وتقييد أو منع السفر واستئناف الجهود لاجتذاب عدد قليل من الشركاء الدبلوماسيين المتبقين لتايوان والضغط على الشركات متعددة الجنسيات لمراجعة السياسات التي تتعامل بها مع تايوان كدولة.
بعد ذلك يتم طرح السؤال الأكثر تعقيدا، وهو ما هي بدائل السلوك الصيني”؟
حيث أن الصين لن تتراجع قيد أنملة –طبقا للواقع القائم حاليا- عن ضم تايوان، فان بدائلها هي:
أولا: الضم السلمي: وخطوات ذلك هي:
أ- توسيع دائرة العلاقات التجارية بين الطرفين، ويكفي معرفة أن 44% من صادرات تايوان تذهب للصين الأم، وقد يؤدي توسيع العلاقات التجارية والسياحية…الخ إلى تحويل العلاقات بينهما من صفرية إلى غير صفرية وخنق النزعة الاستقلالية في تايوان تحت غواية اتساع المصالح المشتركة.
ب- أن يتم إعادة نموذج “دولة بنظامين” كما جرى الأمر مع هونغ كونغ، وهو الأقل تكلفة بشرية واقتصادية وسياسية لطرفي المشكلة، فيبقى النظام الرأسمالي في تايوان لكنه سياسيا وإداريا يتبع بكين.
ت- تعميق العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة وزيادة التنسيق معها في موضوعات التجارة الدولية والمناخ وضبط كوريا الشمالية ونزاعات إقليمية أخرى بهدف استرضاء الولايات المتحدة على حساب تايوان.
معوقات المسار السلمي:
1- أن التيار الحاكم في تايوان بقيادة رئيسة تايوان الحالي تساي اينغوين (Tsai Ing-wen)، يعارض هذا المسار تماما.
2- أن 64% من المجتمع التايواني يعارض الوحدة مع الصين.
3- تنامي النزعة القومية التايوانية المنفصلة عن الإرث الصيني، فقد وصف 18% من سكان تايوان أنفسهم بأنهم تايوانيون عام 1992، وارتفعت النسبة إلى 62% عام 2021.
4- يرى 64% من التايوانيين انه حتى لو لم يتم التوحيد السلمي فان احتمالات الحرب مع الصين هي احتمالات شبه معدومة أو ضعيفة للغاية.
ثانيا: الضم العسكري:
تميل اغلب التحليلات لسيناريو الحل العسكري بأنه قد يبدأ التمهيد له بحصار بحري وجوي صيني للجزيرة يقطع عنها حركة الدخول والخروج، ولما كان الوجود الأمريكي العسكري في تايوان محدودا بعشرات المستشارين والمدربين، فان ذلك لن يشكل نقطة حرجة للتخطيط الصيني في بداياته.
عقب ذلك وبعد الإنهاك التايواني من الحصار، قد تبدأ عمليات إنزال صيني برا وبحرا، وهنا يبدأ حساب القوى على النحو التالي:
1- المقارنة بين تايوان والصين: تشير المقارنة إلى فارق هائل في مقومات القوة بين طرفي الصراع، وهو ما تكشفه المعطيات التالية:
أ- إجمالي الناتج المحلي للصين يساوي 16 ضعفا للناتج المحلي التايواني.
ب- عدد سكان الصين يساوي 61 ضعفا بينما مساحة الصين تعادل 250 ضعفا لمساحة تايوان.
ت- الجيش: الإنفاق العسكري الصيني يعادل 22 ضعف التايواني.
ث- عدد الجيش الصيني 12 ضعف (القوات البرية 11 ضعف، البحرية 6 إضعاف، القوات الجوية 11 ضعفا، إلى جانب قوات الصواريخ الإستراتيجية وقوات الدعم الاستراتيجي والقوات المتنوعة الأخرى التي يصل مجموعها إلى 415 ألف فرد مقابل لا شيء لتايوان).
2- المقارنة بين الطرفين في ضوء تحالفاتهما:
تمثل الولايات المتحدة الحليف الأهم لتايوان، لكن التدخل الأمريكي قد يتراوح بين التدخل المباشر مع كل المخاطر المرتبطة بهذا الخيار، او تكرار النموذج الأوكراني باقتصار الدور على المساندة العسكرية بتوريد السلاح والمال وفرض عقوبات على الصين، أو حشد قوى إقليمية لنهش القوة الصينية عبر أدوار معينة لكل من اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين إلى جانب تايوان.
وهنا لابد من التنويه بأنه لا يوجد سوى قاعدتين أمريكيتين داخل دائرة نصف قطرها 500 ميل من تايوان تسمح للطائرات المقاتلة بالعمل دون التزود بالوقود، وكلا القاعدتين عرضة للترسانة الصينية المتطورة بشكل متزايد من الصواريخ الباليستية التقليدية الأرضية، مما قد تضطر الولايات المتحدة إلى العمل من حاملات الطائرات الخاصة بها، والتي أصبحت أيضًا عرضة بشكل متزايد للهجمات من البر الرئيسي الصيني.
من جانب آخر، يشير النظر إلى الوجود العسكري الأمريكي في شرق آسيا إلى عدد من المحددات المعيقة للحركة الأمريكية:
1- المعيق الجغرافي، فبعض القواعد الأمريكية كتلك الموجودة في أوكيناوا اليابانية تبعد قرابة 600 كم عن تايوان.
2- قاعدة غوام (Guam) الأمريكية فيها قاذفات ثقيلة لكنها بعيدة جدا عن تايوان وبمسافة تصل إلى حوالي 2700 كم.
3- قواعد في شمال الفلبين، في أقصى جنوب مسرح المعركة، وهو نفس الوضع لأربعة مراكز (بعضها تجمع قواعد) في اليابان و سبعة مراكز في كوريا الجنوبية.
4- إذا استمر تزايد الإنفاق العسكري الصيني على وتيرته الحالية فان الإمكانيات الصينية ستكون خلال الفترة 2025 كافية للسيطرة على تايوان طبقا لتقديرات مؤسسة الأبحاث الإستراتيجية التايوانية، رغم أن تايوان رفعت إنفاقها العسكري أكثر من 8 مليار دولار ليتم تطوير الجيش خلال السنوات الخمس القادمة.
5- أجرت الصين تجارب صاروخية مضادة للسفن الحربية عام 2020 في بحر الصين الجنوبي، وهو ما تم النظر له على انه استعداد للمواجهة مع البحرية الأمريكية.
الارتباك الدبلوماسي الأمريكي في الموضوع التايواني:
يبدو الحرج الأمريكي من أن الالتزام الأمريكي الصريح والواضح بالدفاع عن تايوان قد يغوي تايوان على اللجوء لسياسات استفزازية تصعد الموقف مع الصين وهو ما سيورط أمريكا، كما أن عدم الوضوح في الالتزام الأمريكي قد يجعل الأمر هو الأفضل للقرار الأمريكي طبقا لمعطيات الواقع لحظة وصول الموضوع لنقطة الحسم، لذلك يبدو ان سياسة “الغموض الاستراتيجي لما هو قادم” من الطرف الأمريكي كانت وستكون هي الأنجع.
ومن الضروري التنبه الى ان محددات السلوك الأمريكي مرتبطة بالإعلان الأمريكي عام 1982، أي بعد 3 سنوات من إقامة العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الصينية، وهو الإعلان الذي تضمن:
أ- التعهد بعدم الإقرار بسيادة الصين على تايوان.
ب- تقديم المساعدات العسكرية لتايوان (دون الإشارة للصين).
ت- مبدأ سياسة “صين واحدة” والذي يعني اعتراف الولايات المتحدة بالحكومة الصينية كممثل وحيد للصين.
ث- بين 2018 و2021 تطور الموقف الأمريكي نحو نوع من النشاط الدبلوماسي المتبادل مع تايوان وإزالة كل ما يمنع التواصل بين الطرفين، وهو ما اقلق الدبلوماسية الصينية بخاصة في ظل سياسات دونالد ترامب.
ولكم ما هي معوقات العمل العسكري للصين:
1- إن عملية احتلال الجزيرة وعبور مضيق يمتد لحوالي 130 كم أمر ليس سهلا.
2- إن الأضرار الاقتصادية على الصين ستكون كبيرة في ظل حجم العلاقات التجارية الصينية مع الولايات المتحدة ودول حوض الهادئ ومنها تايوان واليابان…الخ.
3- إرباك الواقع الجيوبولتيكي الصيني للتخطيط الجيواستراتيجي الصيني، فالصين محاطة باحدى وعشرين دولة، منها 14 بحدود برية و 7 بحدود بحرية بمجوع أطوال أكثر من 22 الف كم برا و 18 الف كم شواطئ ساحلية، وهو ما يجعل ضمان هدوء كل هذا المساحة وضمان السيطرة عليها أمرا مرهقا للغاية.
ولكن ما أهمية تايوان عالميا؟:
أ- مراقبة واحتواء ومنافسة القوة الصينية.
ب- ضمان طرق التجارة البحرية في منطقة الباسيفيكي.
ت- مركز تكنولوجي متطور بخاصة في صناعة أشباه الموصلات.
ث- اعتبارها نموذجا ديمقراطيا في مواجهة “الاستبداد الشيوعي”.
مؤشرات التأزيم:
1- استمرار إرسال طائرات أو قطع بحرية صينية عبر مضيق تايوان ومئات اختراقات الأجواء التايوانية طبقا للبيانات التايوانية بلغت أحيانا 56 خرقا في يوم واحد.
2- النقد المتواصل من تايوان للسياسة الصينية في هونع كونغ، واتهام بكين بالتدخل في الانتخابات في هونغ كونغ، وقيام السلطات الصينية بعمليات اعتقال، ناهيك عن وجود القوات الأمريكية المحدودة في تايوان للتدريب والاستشارة.
3- النزوع التايواني والاسترالي نحو: عسكرة بحر الصين الجنوبي.
4- حدة الخطاب الصيني وتأكيده المستمر على بعض الجوانب مثل:
أ- اعتبار التوحيد والصين الواحدة التزاما تاريخيا للحزب الشيوعي الصيني.
ب- أولوية التوحيد السلمي.
ت- يجب هزيمة نزعة الاستقلال التايواني.
ث- لا يجب التهوين من التصميم والعزم الصيني على الوحدة الإقليمية للصين.
ج- غموض المدى الزمني الذي يجب ان يتم انجاز التوحيد خلاله، مع الميل التدريجي منذ 2013 و 2019 نحو ترك “موعد الحسم” مفتوحا.
من الأرجح ان عام 2049 سيكون العام الذي لا يجوز الاحتفال فيه بمرور المئوية الأولى على قيام الجمهورية الصينية الشيوعية دون إتمام التوحيد وإقامة مشروع الصين الكبرى بعد انجاز ضم هونغ كونغ وماكاو.
دروس أوكرانيا:
شكلت أوكرانيا وبعض التنسيق الروسي الصيني نقطة “إعادة التفكير” في السياسة الخارجية الأمريكية وتحديدا في العجز عن الحفاظ على النظام الدولي الأحادي القطب الذي أصبح من الماضي، وتشير المقارنة لموضوعي أوكرانيا والناتو إلى الملاحظات التالية:
1- الناتو بجوار الجغرافيا الأوكرانية وملتصق بها، بينما الجغرافيا تمثل مشكلة للقوات الأمريكية في تايوان، لاسيما ان هناك أرخبيل من الجزر في تايوان.
2- على أمريكا تزويد تايوان بالسلاح قبل المعركة، لان التزويد أثناء المعركة سيكون معقد جدا بسبب التواجد الصيني حول الجزيرة، لكن التزويد المبكر سيخلق إشكالا كما لو أن أمريكا هي التي تقوم بتأزيم الوضع.
3- التحالفات الباسيفيكية ليست بعمق التزامات الناتو
الخلاصة:
من الضروري انتظار حدثين هامين، الأول مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني المحتمل في نوفمبر 2022، والانتخابات البرلمانية التايوانية يناير 2024 التي قد تشير إلى التوجهات الداخلية في تايوان.
والى جانب المعطيات التي أشرت لها، أود الإشارة إلى شخصية رئيسة تايوان التي تتبنى خطابا عدائيا للغاية تجاه الصين، يقابلها الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ الذي تولى سلطاته عام 2013- وهو تكنوقراطي (يحمل مؤهلا جامعيا في الهندسة الكيماوية) ولديه نزعة براغماتية واضحة رغم خلفيته الاجتماعية المضطربة (حيث سجن والده، وانتحرت شقيقته، وهرب من العمل وتم نقله لمعسكرات الأعمال العقابية…الخ)
وعليه، فان التراجع الصيني عن ضم تايوان أمر غير وارد نهائيا.. واعتقد أن الولايات المتحدة ليست في وضع مريح لتأجيج الموقف التايواني بعد انغماسها في أوكرانيا، لاسيما أن المواجهة الاقتصادية مع الصين اعقد كثيرا من المواجهة مع روسيا، ناهيك عن تباين البيئة الإقليمية في الصراع الأوكراني قياسا للازمة في تايوان.. وقد اشرنا في دراسة سابقة أن توزيع القوة في النظام الدولي على أساس القوى العظمى كشف أن الولايات المتحدة تمتلك 38.18% مقابل 34.55% للصين، وهو ما يعني أن التعددية القطبية أمر لا مفر منه.. فمن يستفيد؟ ومن يتضرر؟