مستقبل الحرب الأوكرانية- الروسية- محاولة حدسية.
في ظل التضارب في البيانات والمعلومات عن المشهد العسكري، وفي ظل المعركة الاقتصادية، التي تتضارب الكثير من بعض معطياتها، وفي ظل الإلحاح العقلي على محاولة فهم ما يجري، فان “الحدس” هو التقنية المتاحة لدراسة المشهد الدولي في ظل الحرب الأوكرانية الروسية، لان غير ذلك يحتاج لرصد لكل المعطيات منذ 2014، على الأقل، ناهيك عن التأثير المتبادل للمتغيرات وتحديد أكثرها وطأة على غيرها وبناء دولاب مستقبلي استنادا لذلك ثم صياغة السيناريوهات.
عبر الحدس أرى المشهد على النحو التالي:
أولا: المشهد الاقتصادي
بلغ مجموع المساعدات الغربية (أمريكا والاتحاد الأوروبي) لأوكرانيا منذ بداية الحرب حوالي 29 مليار دولار حتى تاريخ 5 ماي 2022، أي بعد 69 يوما من الحرب، منها 11.2 مليار من الولايات المتحدة و2.1 مليار من كندا والباقي من الاتحاد الأوروبي (15.7 مليار)، أي بمعدل حوالي 420 مليون دولار يوميا، ولا شك أن هذا عبء كبير بخاصة مع حساب القفزات في أسعار مصادر الطاقة والتضخم والبطالة ودون حساب الـ33 مليار دولار المقترحة من الولايات المتحدة.
من جانب آخر، قدر المعهد الاقتصادي الأوكراني (Kyiv School of Economics) تكاليف الدمار في البنية التحتية الأوكرانية بحوالي 92 مليار دولار حتى اليوم (5 ماي 2022)، وهو ما يعادل 60% من الناتج الاقتصادي السنوي لاسيما مع توقف تام لـ30% من المؤسسات الإنتاجية الأوكرانية، إلى جانب 45% منها توقف بشكل جزئي طبقا للإحصاءات الأوكرانية الرسمية.
بالمقابل، فان العبء الاقتصادي لروسيا لا يقل ثقلا عن العبء الأوكراني، فالي جانب النفقات العسكرية (زيادة الإنفاق العسكري عام 2021 تحضيرا للمعركة بمعدل 2.9% من إجمالي الناتج المحلي الروسي) فان روسيا تواجه إمكانية مصادرة احتياطاتها النقدية في الخارج، لاسيما ان 7 من الدول التي فيها الجزء الأكبر من الاحتياطيات النقدية الروسية تطبق العقوبات على روسيا، وهذه الدول هي:
فرنسا ولديها 74.4 مليار دولار
ألمانيا 55.6 مليار
الولايات المتحدة 38.6 مليار
النمسا 17.6 مليار
كندا 16.4 مليار
بريطانيا 26.3 مليار
اليابان 58.5 مليار
بينما تحتفظ روسيا بمخزون نقدي احتياطي في المؤسسات الدولية المالية بحوالي 29.3 مليار دولار، إلى جانب 62.6 مليار في بقية الدول، ويصل المجموع الكلي حتى يوم 5 ماي حوالي 640 مليار دولار، منها حوالي 287.4 مليار في الدول التي صنفها الرئيس الروسي بوتين بـ”الدول غير الصديقة”، أي أن لديه احتياطي نقدي في دول صديقة يصل إلى 345.9 مليار دولار يستطيع الوصول لها، منها 88.3 مليار دولار في الصين، أو ما يعادل 13.8% من إجمالي الاحتياطي الروسي.
لكن الاستيلاء على الأموال الروسية من الدول السبع (وهو مطلب أوكراني للتعويض عن خسائر أوكرانيا) ليس أمرا سهلا نظرا لنقص السوابق في العلاقات الدولية في هذا الجانب أولا، وثانيا الحاجة إلى تشريعات وطنية بهذا الخصوص وهو أمر غير متوفر، بل ان بعض الدول مثل فرنسا أوضحت ان هذا الإجراء غير مطروح ولا مقبول، بينما التزمت ألمانيا الصمت على سبيل المثال، وقد يؤدي الإجراء لرد روسي مماثل تجاه شركات غربية تعمل في أراضيها.
ثانيا: موضوع البترول والغاز
تتمثل المعركة الرئيسية في هذا الجانب في مدى “تحرر” السوق الأوروبي من الاعتماد العالي على النفط والغاز والفحم الروسي، وطبقا لدراسة المفوضية الأوروبية لهذا الموضوع (REPowerEU: Joint European Action for more affordable, secure and sustainable energy)، فان الخطة تقوم على أساس ان أوروبا تعتمد على روسيا في الغاز بنسبة 45.3%، وفي النفط 27%، وفي الفحم 46% مع بدء الحرب، وتقوم الخطة على اعتماد المرحلية حتى عام 2025 وصولا للتحرر التام عام 2030، وتعتمد الخطة على ترشيد الاستهلاك + تطوير مصادر الطاقة البديلة للغاز والنفط والفحم (مثل الميثان والطاقة الشمسية والمياه…الخ)+ تطوير العلاقة مع الدول الأخرى غير روسيا المنتجة للنفط والفحم والغاز+ توظيف الاحتياطي من المخزون الطاقوي الأوروبي.
فإذا افترضنا ان الخطة الأوروبية سارت طبقا للمرسوم، فان السنوات الثلاث القادمة هي “الاختبار الحقيقي” لمصداقية الخطة، بخاصة أن جدار التناغم السياسي بين دول الاتحاد في هذا المجال ما زال فيه شقوق عديدة.
ثالثا: الهدف العسكري للحرب
رغم الفيض من التقارير الإعلامية والتصريحات السياسية الغربية عن الهدف المركزي للحرب بأنه احتلال أوكرانيا وتغيير النظام فيها وتهديد أوروبا.. الخ، إلا ان القراءة الدقيقة تشير إلى أن الهدف الروسي هو تحديدا: ضمان عدم انضمام أي دولة محاذية حدوديا لروسيا إلى حلف الأطلسي (وهو أمر تزايد الإقرار الأوكراني بقبوله)، والهدف الثاني هو استقطاع مقاطعة دونباس الشرقية وتحويلها لجمهوريتين مستقلتين وربما ضمهما لاحقا + هدف ثالث هو تأكيد السيطرة على السواحل الأوكرانية في الجنوب وتحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة أو شبه حبيسة، لاسيما مع سيطرة روسيا على الأجواء الأوكرانية، فلا يبقى لها من ممرات برية إلا عبر بولندا بخاصة مع التماهي البيلوروسي مع روسيا.
وتشير قراءة المسار العسكري للعملية أن روسيا سيطرت على كل المناطق المستهدفة، ولعل توغلها لحدود كييف في بداية العملية كان مدفوعا بأهداف عسكرية تكتيكية بحتة لا أهداف إستراتيجية، وما إن تحققت الأهداف التكتيكية من بلوغ حدود كييف حتى شرعت القوات الروسية المتوغلة في الانكفاء الى حدود الأهداف الإستراتيجية التي أشرت لها أعلاه.
رابعا: المعركة السياسية والإعلامية
نعتقد ان مساحة التضامن الدولي مع العملية الروسية هي مساحة أضيق كثيرا مما توقعت روسيا، ولعل أنماط التصويت ومساحة العقوبات والاستجابة لمعظمها في المنظمات الدولية والإقليمية مؤشر واضح للغاية في هذا الجانب، وفي الجانب الإعلامي لا تختلف الصورة، فسواء في الإعلام الغربي والعربي واغلب الآسيوي هناك بيئة إعلامية غير مواتية للروس لاسيما مع التضييق على الوسائل الإعلامية الروسية أو نتيجة نقص المواقع باللغات الكبرى كالانجليزية المساندة لروسيا).
بناء على المشاهد السابقة، ما هي الصورة المحتملة؟
إذا استبعدنا المتغير قليل الاحتمال عظيم التأثير(low Probability-High Impact) فان المشهد “قد” يأخذ الشكل التالي:
1- ستطول الأزمة – لا الحرب – إلى سنوات نتيجة استقطاع روسيا للشرق وبعض الجنوب الأوكراني وتحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة او شبه حبيسة (Land Locked)، حيث ستبقى المطالبة الأوكرانية بإعادة توحيدها قائمة أو موضع تنازع معلن أو صامت.
2- قد تأخذ الأزمة طابعا اقل حدة في حالة تغير النظام في أوكرانيا لأي سبب، “فاغلب” الدول المهزومة تاريخيا تتعرض للتغيير في قيادات نظامها السياسي المهزوم، بعد وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب العسكرية.
3- لعل الدرس الأوروبي في الاستقلال الطاقوي سيتعزز في حالة قبول الطلب الفنلندي والسويدي بالانضمام للناتو بخاصة مع جوارهما لروسيا، رغم أن هذا الانضمام ليس مؤكدا في ظل اعتراض من بعض الدول الأعضاء (خاصة ان قرار العضوية يحتاج لقرار بالإجماع) إلى جانب أن رد الفعل الروسي لن يكون هينا.
4- قد يكون المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني في نوفمبر القادم مؤشرا على مستقبل تايوان في ظل تداعيات الحرب الأوكرانية، ونعتقد أن الصين ستكون أكثر تشددا في هذا الموضوع أكثر من أية مرحلة سابقة، لكنها ستستثمر ذلك في وضع خطتها بدراسة الملابسات التي واجهتها روسيا في حرب أوكرانيا، ولعل ذلك سيزيد العبء على السعي الأمريكي للحفاظ على مكانتها في أعلى السلم الدولي.
5- ستحدد نتائج الحرب الأوكرانية احتمالات فوز بوتين في الانتخابات الرئاسية القادمة في مارس (أو ابريل إذا كان هناك جولة ثانية) عام 2024، ويبدو انه سيوظف ذلك لضمان استمراره في الحكم بخاصة أنه سيكون في عامه الثاني والسبعين (وهو معدل العمر في روسيا حتى عام 2020، (ما لم يحدث له المتغير قليل الاحتمال).
6- قد تترك نتائج الحرب الأوكرانية تداعيات ذات ثلاثة أبعاد:
أ- اتساع دائرة الخلاف الأمريكي-الأوروبي في مرحلة لاحقة.
ب- مواجهة الاتحاد الأوروبي خلافات متزايدة كلما اشتدت المعركة الحربية او الاقتصادية.
ت- تراجع الثقة بسياسات الناتو بخاصة إذا تراجعت او تلكأت فنلندا والسويد في طلبهما.
7- ستكون فكرة “الاستدارة نحو الشرق” أكثر غواية لعدد من الدول غير الأوروبية.
8- يبدو ان إسرائيل ستجد نفسها في موضع أكثر صعوبة في ظل المشهد الدولي السابق.
9- سيبقى السعي الدولي من كل الجهات لتجنب المواجهة النووية أو المواجهة الروسية الشاملة مع الناتو.
10- ……ربما.