تلعب التباينات الثقافية داخل المجتمعات دورا في تأجيج الصراعات الدولية (الى جوانب العوامل السياسية والاقتصادية.. الخ)، والقدرة على تجاوز هذه المسألة الثقافية أمر يستحق التأمل.
لو أخذنا الاتحاد الأوروبي الحالي سنجد أن عمق التباينات الثقافية والاجتماعية فيه تكاد لا تختلف عن بقية أقاليم العالم، فلماذا توحدوا إقليميا دون غيرهم حتى رغم الردة البريطانية على ذلك؟
أن حجم التباينات الثقافية في أوروبا تفوق بشكل كبير حجم التباينات في المجتمع العربي، ويكفي أن أعطي المؤشرات التالية:
1- الفروق الدينية بين الأوربيين، فهم منقسمون دينيا ومذهبيا، فهناك المسيحيون: الرومان الكاثوليك (في الغرب والجنوب الغربي)، والبروتستانت (الشمال) والارثذوكسية الشرقية (الشرق والجنوب الشرقي) إلى جانب الملحدين 11% واللادريين (الغنوصيين) 14%، ثم المجموعات الدينية الصغيرة الأخرى المسلمون واليهود وأتباع الديانات الآسيوية.. ذلك يعني أن هناك حوالي 10 مجموعات دينية أو مذاهب دينية.
2- الفروق اللغوية: هناك 24 لغة رسمية مستعملة في دول الاتحاد.
3- الفروق العرقية (القومية)، هناك 87 مجموعة عرقية أوروبية، منها 33 مجموعة كبرى و 54 أقلية عرقية أوروبية أخرى.
4- التباين في النظم السياسية: هناك تباين في النظم السياسية (هناك 7 دول ملكية والباقي جمهوريات).
5- الذاكرة التاريخية: يغلب على العلاقات التاريخية بين الأوروبيين الصورة السلبية، فلو أخذنا اكبر 12 حرب في التاريخ الإنساني من حيث عدد القتلى سنجد أن 4 منها أوروبية (حوالي 33% من حروب العالم الكبرى)، وان عدد القتلى في الحروب الأوروبية الداخلية يصل إلى حوالي 100 مليون قتيل.
رغم كل ذلك توحدوا، ولم تطلق طلقة واحدة داخل دول الاتحاد الأوروبي منذ 1950، أي خلال 70 سنة… وهنا يبرز السؤال لماذا؟
لا أميل لتفسير الظواهر –بخاصة المعقدة منها والتاريخية- لسبب واحد، فأحادية العلة لا تصلح لتفسير الظواهر غالبا، لكني اعتقد أن العامل الأكثر أهمية هو “دور العقلانية التي غرسها الفكر الأوروبي تدريجيا”، وهو ما ساعدهم على إدارة خلافاتهم وتبايناتهم، وتطور المنهج العقلاني لا يتم إلا بإخضاع الكثير من “الثوابت والمسلمات” لهذا المنهج، وهو ما فعله الأوروبيون في كل تفاصيل حياتهم بدءا من العلاقات الفردية إلى العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومن فنون وآداب.. الخ.. ربما.