شهدت المواقف الغربية من أزمة أوكرانيا تحولا بين 2014 و2021. الدول التي كانت مترددة ومتحفظة قبلا جهرت بدعم أوكرانيا ومدها بالمساعدات العسكرية والأسلحة، مع اتهام روسيا بالاستعداد لاجتياح الأراضي الأوكرانية.
ما الذي جعل مواقف تلك الدول تتغير بين أزمة القرم 2014 والأزمة الأوكرانية الحالية؟ وهل نشهد تبلور نظام متعدد الأقطاب؟
قبل التطرق إلى الأزمة الحالية لابد من العودة إلى ما قبل 2014. وبالضبط إلى الحرب الروسية الجورجية و أسبابها، لمعرفة ما يجري الآن في القوقاز.
الحرب الروسية الجورجية 2008
نشبت الحرب بين روسيا الاتحادية وجمهورية جورجيا، عام 2008. وحمل حينها تقرير صادر عن الاتحاد الأوروبي جورجيا مسؤولية التسبب في الحرب، عندما قامت بأعمال عدائية مفتوحة، بدأت بعملية عسكرية جورجية واسعة النطاق ضد تسخينفالي والمناطق المحيطة بها، حسب ما أوردته صحيفة “ذ تيليغراف” يوم 30 سبتمبر 2009، في مقال بعنوان “الاتحاد الأوروبي يلوم جورجيا على بدء الحرب: EU blames Georgia for starting war with Russia”.
وكان الرد الروسي أوسع مما توقعته جورجيا، التي اعتقدت ومن ورائها الغرب أن روسيا ستلزم الصمت، أو يكون ردها محدودا كما كان عليه الحال في عهد الرئيس بوريس يلتسن الذي سمح بانفصال كوسوفو عن صربيا العام 9991. كا لم تستطع روسيا الاتحادية إيقاف الحرب في يوغسلافيا.
أسباب..
لم تختلف الأسباب التي وقفت خلف الحرب الروسية الجورجية للعام 2008، عما يجري حاليا بين روسيا وأوكرانيا، مع اختلاف في الظروف الدولية السائدة التي تتميز بظهور أقطاب جديدة فاعلة على الساحة الدولية في المجال السياسي الممثل في شبه تحالف روسي صيني. وفي المجال الاقتصادي ظهور مجموعة البريكس (البرازيل الهند روسيا الصين وأفريقيا الجنوبية)، في مواجهة التكتلات السياسية والاقتصادية التقليدية ممثلة في الاتحاد الأوروبي، واتفاقية أمريكا الشمالية للتجارة الحرة “نافتا” التي تضم الو م أ كندا والمكسيك.
ويمكن حصر أسباب الحرب في الصراع على موارد الطاقة في بحر قزوين وكرد على عدم قدرتها على منع استقلال كوسوفو والحرب في يوغسلافيا نهاية التسعينات من القرن الماضي.
توجيه رسالة لحلف الناتو الذي لم يتوقف عن محاولات التوسع شرقا لمحاصرة روسيا، وتحذيره من تنصيب قواعد عسكرية في بحر قزوين.
منع حلف الناتو من تنصيب الدرع الصاروخي في بولونيا، العام 2007، حيث هددت روسيا بضربها بالنووي في حال وافقت على ذلك.
يضاف إلى ذلك تدخل روسيا لحماية الأقليات الروسية في إقليمي أوسيتيا وأبخازيا (يمثل الروس اغلبية في الاقليمين)، الذين تعرضت لاعتداءات من الجيش الأوكراني على خلفية مطالبتها بالانفصال.
أزمة 2014
بدأت أزمة القرم نهاية 2013، بسبب تعليق حكومة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، توقيع اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي. وشنت المعارضة احتجاجات نهاية 2013 ضد قرار الرئيس المنتخب في 2010 والمحسوب على روسيا. وانتهت بعزله يوم 23 فيفري 2014.
وشنت القوميات الروسية في أوكرانيا احتجاجات مضادة رافضة ما يجري في كييف ضد يانوكوفيتش، وطالبت حينها بالحكم الذاتي والانضمام إلى روسيا.
وفي الفاتح مارس وافق المجلس الفدرالي الروسي على دخول القوات الروسية إلى الأراضي الأوكرانية، لحماية الأقليات الروسية والنظام الموالي لها، بطلب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ردود فعل
لم يكن رد فعل القوى الفاعلة حينها متناسبا مع الفعل الروسي في أوكرانيا. حيث تعاملت بشئ من اللين مع روسيا والتهديد فقط بفرض عقوبات.
طرحت الولايات المتحدة الأمريكية القضية على الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت لصالح وحدة الأراضي الأوكرانية.
وقال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في خطاب يوم 28 فيفري 2014:”إن الولايات المتحدة ستقف بحزم مع المجتمع الدولي للتأكيد على أن أي انتهاك لسيادة أوكرانيا سيكون له ثمن”.
وهدد وزير خارجيته آنذاك جون كيري بطرد روسيا من مجموعة الثماني، وهي تهديدات أخذتها روسيا على محمل السخرية، ومضت في قرارها بضم جزيرة القرم من جديدة إلى أراضيها. بينما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا على ثلاث مراحل.
وأكدت الصين حينها أنها “احترمت دائما سيادة وسلامة ووحدة أراضي الدول”. ودعت “كل الأطراف إلى التحلي بضبط النفس” واقترحت إنشاء “آلية تنسيق دولية لمحاولة إيجاد تسوية سياسية”.
استفتاء
أجري استفتاء انفصال جزيرة القرم عن أوكرانيا وانضمامها إلى روسيا يوم 16 مارس 2014. وجاءت نتائجه تأكيدا على تصويت أعضاء المجلس الأعلى للجمهورية ذاتية الحكم يوم 06 مارس 2014، على الانفصال رسميًا عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا الاتحادية.
وفي اليوم الموالي للاستفتاء، أي 17 مارس 2014، وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مشروع معاهدة ضم جمهورية القرم إلى الاتحاد الروسي.
وطرحت مسألة الاستفتاء أمام مجلس الأمن الدولي للتصويت ببطلان نتائجه، لكن روسيا استعملت حق النقض ما جعل الطرح باطلا. ومضت في قرار الضم.
أزمة 2022
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموما، لم يستسغ الخطوة الروسية الجريئة في ضم جزيرة القرم. خاصة وأن روسيا استعادت عافيتها وتريد إحياء مجد إمبراطوريتها السوفييتية، وربما استرجاع الأراضي التي اقتصت منها عنوة في وقت ضعف وانهيار.
ومن خلال تتبع الأحداث والنزاع الدائر بين روسيا والغرب منذ نهاية 2021، يلاحظ أن هناك هجوما أمريكيا ضد روسيا بوابل من الاتهامات حول نية روسيا في اجتياح الأراضي الأوكرانية. بالاستناد إلى قيام روسيا بإعادة توزيع قواتها داخل حدودها الفدرالية.
ورغم معرفة الولايات المتحدة الأمريكية بموقف روسيا حول مناطق النفوذ والعمق الاستراتيجي لها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، لكنها تصر على التواجد العسكري، بدعوى حماية النظام الأوكراني حليف الغرب. في الوقت الذي ترفض أمريكا مجرد تحريك روسيا قواتها داخل حدودها الجغرافية.
ويمكن وصف هذه التصرفات الأمريكية بالاستفزازية لجر روسيا إلى حرب استنزاف تضعفها، وتمنعها من منافسة الولايات المتحدة الأمريكية على ريادة العالم رفقة القوى الصاعدة الجديدة.
مواقف
اختلفت مواقف القوى الغربية جذريا في الأزمة الأوكرانية الحالية، عن مواقفها من أزمة القرم.
في 2014 اكتفت أمريكا بعرض القضية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولوّح الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، دون ثنيها عن مسعاها.
في الأزمة الحالية، قررت أمريكا دعم أوكرانيا عسكريا من خلال إرسال شحنات أسلحة ومعدات عسكرية لمواجهة أية “محاولة” روسية لاجتياح الأراضي الأوكرانية. وتأليب الرأي العام الدولي من خلال نشر أخبار عن نية روسية لغزو أوكرانيا. رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن نفى ما يتداول حول إرسال الولايات المتحدة الأمريكية قوات إلى أوكرانيا.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، البداية كانت من السويد التي شرعت في نشر معدات عسكرية في مدينة فيسبي الساحلية على جزيرة غوتلاند، المطلة على بحر البلطيق، في رد على “النشاط الروسي” المتزايد في المنطقة.
في حين تستغل فرنسا ماكرون الموقف للحملةو الانتخابية لرئاسيت 2022، من خلال الترويج لفكرة تشكيل قوة عسكرية مستقلة. وقال وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان إن روسيا مستعدة للتحرك في أوكرانيا، في اتساق مع الموقف الأمريكي.
وتتحفظ برلين بفعل علاقاتها بموسكو، في حين تلزم سويسرا الحياد.
وهذا يشير إلى عدم تنسيق الاتحاد الأوروربي في مواقف السياسة الخارجية، عندما تعلق الأمر بقوة مكافئة، على عكس ما كان يحدث عند التحامل الأمريكي على أنظمة أضعف.
وبالنسبة للصين، لم يختلف موقفها عن باقي الأزمات التي مرت بها المنطقة، حيث دعت مجددا إلى ضرورة إيجاد طريق للحل السلمي في ظل احترام مبادئ القانون الدولي.
خلاصة
ومما يُستفاد من الأزمات الثلاث ان الحرب الباردة التي بدأت بنهاية الحرب العاليمة الثانية واصطلح على انتهائها بانهيار الاتحاد السوفييتي، لم تنته فعليا وبقيت دائرة بين الطرفين لكن بحدة اقل، نظرا لتحول نظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى مناطق نفوذ اخرى اكثر أهمية، تزخر بثروات يسمح الاستحواذ عليها من إبقائها متسيدة على العالم أطول وقت ممكن.
كانت الوجهة عدوا جديد وهميا فيما سمي الخطر الأخضر، وكانت البداية بحرب الخليج الثانية وصولا إلى “ثورات الربيع العربي”. لكن ونظرا لتحول موازين القوى من الغرب إلى الشرق، نلاحظ عودة المواجهة بين روسيا والصين من جهة والولايات الماحدة المريكية وحلفائها من جهة اخرى، رغم عدم تناسق المواقف في بعض التفاصيل.
العسكرة ونظام جديد
لا تستبعد مؤشرات العسكرة الجارية على الحدود الفاصلة بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا من جهة وروسيا من جهة أخرى، قيام حرب بين هذه الأطراف. في فترة يمر بها النظام الدولي بمرحلة انتقالية من الأحادية القطبية إلى التعددية القطبية.
ويشير تاريخ العلاقات الدولية إلى أن كل تحول في النظام الدولي مر حتما بحرب قلبت موازين القوى.
أسفرت تلك الحروب عن تراجع قوى وصعود قوى جديدة. وهو ما حدث في الحرب العالمية الأولى، حيث أنهت نظام توازن القوى الذي ساد منذ اتفاقية واستفاليا عام 1648 وجاءت بنظام الأمن الجماعي من خلال إنشاء عصبة الأمم.
لكن ذلك النظام لم يكن واضح الملامح بسبب خوف الدول من تكرار تجربة الحرب العالمية الأولى. ورغم هذا الحذر الذي ميز العلاقات بين الدول في فترة مابين الحربين العالمية الأولى والثانية، لكن المحظور وقع.
وبنهاية الحرب العالمية الثانية، ظهر نظام جديد هو نظام القطبية الثنائية سيطرت فيه الو م أ والاتحاد السوفييتي على الساحة السياسية الدولية، فيما يعرف بالحرب الباردة.
وكشف انهيار الاتحاد السوفييتي، أو ما اصطلح عليه بـ” نهاية الحرب الباردة”، عن نشأة نظام أحادي القطبية هيمنت فيه قوة واحدة على العلاقات الدولية. وبقيت أمريكا القوة العظمى الوحيدة إلى غاية بداية القرن الحادي والعشرين، ثم بدأت مرحلة جديدة للنظام الدولي في التبلور بظهور أقطاب جديدة.
وتشير دراسات إلى أنها تنذر بنهاية الأحادية القطبية وظهور نظام متعدد الأقطاب، وتتنبأ بإمكانية حدوث حرب بين أطرافها ليس بالضرورة حربا ساخنة.
لكن ما يحدث بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة أخرى، هو أقرب إلى حرب ساخنة ومواجهات عسكرية منه إلى حرب باردة. قد تكون أوكرانيا أول شرارة لها.