ينفي المقال –أدناه- الاعتقاد الشائع عن “النزعة السلمية” في السياسة الخارجية الألمانية، ويعتبر أن قرار ألمانيا رفع ميزانه الدفاع ومساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا تأكيد على استعدادها الدائم للحرب.
يرى جاكوب إبيرْلِي، في مقال نشر في مجلة السياسة الخارجية الأمريكية، أن هناك اعتقادا شائعا عن ألمانيا بين الباحثين والمتابعين، يتصوّر سياسة البلد الخارجية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بكونها سياسةً ظلّت قائمةٌ على “نزعةٍ مُسالِمةٍ (Pacifism)، معارضةٍ من الناحية المبدئية لاستخدام القوة والتسلّح وبناء الجيوش والمشاركة في الحروب.
ويضيف أنّ هذه السردية الشائعة مجرد أسطورةٍ تاريخية وأن السياسة الخارجية الألمانية ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تُشكل أبدا على أُسس النزعة المسالمة، بل من خلال برنامج مزيج وانتقائي من المعتقدات الليبرالية الواضحة، وبأن ألمانيا ظلت بلدا في حالة استعداد دائم للحرب.
ثورة أم استمرارية؟
يأتي المقال في سياق خطابٍ ألقاه المستشار الألماني الجديد أولَف شولز بعد أيّامٍ قليلةٍ من الغزو الروسي لأوكرانيا أعلن فيه عن إحداث تغييراتٍ جوهريةٍ في مقاربة ألمانيا للقوة العسكرية، حيث ستقوم ألمانيا أخيرًا بتسليم أوكرانيا أسلحةً بعد مدةٍ طويلةٍ من سياسة عدم توزيع الأسلحة في مناطق النزاع، كما وعد شولز بإنفاق ما لا يقلّ عن 2% من الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد على الدفاع، فضلاً عن الالتزام تجاه الناتو وإنشاء صندوقٍ خاصٍّ بقيمة 113 مليار دولار لتحديث الجيش الألماني.
وصف محلّلون ونُقّادٌ خطاب شولز بأنّه “تحوّلٌ تاريخيٌّ” و”ثورةٌ في السياسة الخارجية الألمانية”، وبأنّ الألمان “أداروا ظهورهم للنزعة المُسالِمة” وبأنّ ألمانيا “خرجت عن روحها السلميّة التّي تسكنها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية”.
إلاّ أنّ الكاتب يرى في أوصافٍ كهذه مبالغةً تفتقر إلى القراءة التاريخية الدقيقة، فلم تكن ألمانيا قوةً مُسالِمةً في أيّة لحظةٍ من تاريخها الحديث منذ عام 1949.
من الصحيح أنّها كانت أكثر تردّدًا في استخدام القوة مقارنةً بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكنّها كانت دائمًا تستّعد للحرب، بما فيها الحرب النووية.
بين العدوان والدفاع عن النفس
يُقدّم الكاتب طيلة المقال حُججًا تاريخيةً داعمةً لموقفه، حيث يتتّبع السياسة الألمانية منذ إتفاقية بوتسدام سنة 1945 والتّي فرضت “نزع السلاح الكامل وعدم وعسكرة ألمانيا”.
إلاّ أنّ ضرورات الحرب الباردة جعلت دستور سنة 1949 يمنع على ألمانيا (الغربية) “الحروب العدوانية” ولا يقول شيئًا عن أنماط الحروب الأخرى كحروب “الدفاع عن النفس”، كما نصّت وثيقته على إمكانية مشاركة البلاد في التحالفات العسكرية.
في سنة 1955 انضمت ألمانيا الغربية للناتو وأنشأت قواتّها المسلّحة وكان لها أكبر جيشٍ دائمٍ للناتو في أوروبا الغربية. في سنة 1957 وافقت الولايات المتحدة على وضع أسلحتها النووية المتمركزة في ألمانيا تحت سيطرة حكومة بون، مع تدريب القوات المسلّحة الألمانية على نشرها في حالة نشوب صراعٍ محتملٍ مع الكتلة السوفياتية.
في الفترة ما بين 1969-1974 زادت ميزانية الدفاع ب 50% تحت حكم المستشار ويلي برانت والحزب الاشتراكي-الديمقراطي وظلّت ألمانيا الغربية تعتمد على قوة الناتو.
وقام خليفته هيلموت شميدت بنشر جيلٍ جديدٍ من الصواريخ النووية الأمريكية على الأراضي الألمانية لردع السوفيات وخُطّتهم المُماثلة في أوروبا الشرقية.
هكذا شهدت تلك الحقبة ما عُرف “بأزمة الصواريخ الأوروبية” التّي انتهت سنة 1987 وأنهت معها فترة الانفراج بين الشرق والغرب وخلقت احتمالية تجدّد سباق التسلّح النووي في قلب أوروبا.
يتحدّث الكاتب عن نشاط حركة السلام ونشوء حزب الخُضر في ألمانيا آنذاك كردّ فعلٍ على هذه السياسة. ودعا الحزب لسياسةٍ خارجيةٍ “خالية من العنف” ولحلّ حلف الناتو و”النزع الفوري للسلاح عبر العالم”، إلاّ أنّه تخلّى لاحقًا عن مبادئه الأساسية وتكيّف مع السياسة الألمانية القائمة.
تدخلات في الخارج
بالرغم من نهاية التهديد السوفياتي إلاّ أنّ ألمانيا ظلّت منخرطةً في الحروب الجديدة بقيادة الولايات المتحدة، إذْ وجدت نفسها مضطرةً لاتّخاذ مواقف تجاهها في يوغسلافيا والخليج الفارسي والصومال وخارج أراضي الناتو.
طبيعة هذه التدخلات في اطار حلف النيتو جعل من الصعب اعتبارها “حروب دفاعٍ عن النفس” بالمعنى التقليدي، بل وسمحت المحكمة الدستورية الفديرالية الألمانية سنة 1994 للجيش الألماني بنشر قواتّه المسلّحة “خارج المنطقة” في ظلّ ظروفٍ معيّنة.
هكذا شارك الجيش الألماني في القتال المباشر كجزءٍ من قوات الناتو في صربيا خلال أزمة كوسوفو سنة 1999 وفي أفغانستان منذ سنة 2001 ب 15 ألف جندي، وهو ثاني أعلى رقم بعد الولايات المتحدة. إلاّ أنّ المشاركة العسكرية الألمانية صارت أكثر تحفّظًا بعدها، بدا ذلك في حرب العراق سنة 2003 وفي تدخّل الناتو في ليبيا سنة 2011.
هنا لا يُرجِع الكاتب الموقف المعارض لمعظم السياسيّين الألمان تجاه هاتين الحربيْن إلى التزامهم “بالنزعة المُسالِمة” وإنّما إلى استنادهم لمبرّراتٍ أخرى، مرتبطةٍ بالتأثير السلبي لهذه الحروب على النظام الدولي ووحدة الناتو والصراع ضدّ “الإرهاب “الإسلامي””، فلم تكن “النزعة المُسالِمة” في نظره شيئًا موجودًا من الأساس.
هيمنة المنظور الليبرالي
يختم الكاتب المقال بتأكيده على هيمنة المُسلّمات الافتراضية الأساسية للمنظور الليبرالي في العلاقات الدولية على السياسة الخارجية الألمانية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مسلّماتٌ متجذّرةٌ في الثقافة السياسية لبرلين، فقد بُنيت هذه السياسة على الثقة في فضائل الاعتماد الاقتصادي المتبادل وتغيير الأنظمة غير الليبرالية من خلال التجارة. كما تفترض على نحوٍ متفائلٍ جدًّا فاعلية الأدوات الدبلوماسية في حلّ النزاعات ومهارات برلين الفريدة في تطبيقها أيضًا، وهي وجهة نظرٍ تجعل التسوية دائمًا أفضل من مخاطر الحرب حتّى لو “كُنتَ تتفاوض مع الرئيس بوتين”.
أخيرًا، يرى الكاتب بأنّ ما يُقدِم عليه شولز من “تغييرات” يُعبّر عن وجود تشكيكٍ ألمانيٍّ في هذه المسلّمات الليبرالية وفاعلية أدواتها، وليس تشكيكًا في النزعة المُسالِمة، فلم تكن ألمانيا أبدًا قوةً مُسالمة، لكنّها اليوم قد لا تكون مستعدّةً في المقابل لأن تصبح قوةً عسكريةً تقليديةً، لاسيما بعد حقبةٍ طويلةٍ من الهَوَس الليبرالي الذّي ميّز فترة المستشارة السابقة ميركل، عانى فيها الجيش الألماني من قلّة الاستثمار والاهمال والاختلال الوظيفي. لذا من المرجّح أن يكون بحث ألمانيا عن مكانٍ جديدٍ في العالم مسألةً أكثر إيلامًا وبُطأً ممّا يرغب الكثيرون في رؤيته.
الكاتب جاكوب إبيرْلِي، ألمانيا لم تكن أبدًا قوةً مُسالمة: خلافًا للسردية التاريخية الشائعة فقد ظلّ البلد في حالة استعدادٍ دائمٍ للحرب، مجلّة السياسة الخارجية، 04 إبريل 2022، الولايات المتحدة
إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)