يبدو أن الحرب في أوكرانيا تدور على أربعة محاور، أولها المحور العسكري، والذي تبدو فيه الكفة الروسية هي الراجحة رغم تدفق السلاح على أوكرانيا من الدول الغربية.
البنية التحتية للمؤسسة العسكرية الأوكرانية أصبحت في معظمها أطلالا، كما ان روسيا ضيقت من أهدافها العسكرية باتجاه التركيز على ثلاث جبهات هي الشرق وتأمين جمهوريتي إقليم دونباس أولا، ثم تأمين السيطرة على القرم، وهو قائم قبل الحرب ثانيا ثم تحويل أوكرانيا إلى دولة حبيسة أو شبه حبيسة من خلال السيطرة على كل منافذها البحرية ثالثا.
وفي تقديرنا ان هذا المحور هو الأقل استغراقا زمنيا (شهر ونصف تقريبا) بين المحاور الأربعة الأخرى.
أما المحور الثاني، وهو المحور السياسي، فتبدو المكانة الروسية فيه تهتز بقوة، فقرارات الأمم المتحدة والعزل من عضوية لجنة حقوق الإنسان الأممية يشير الى نسب تصويت متدنية لصالح روسيا، وهو مؤشر سلبي للسياسة الروسية يصل إلى حد الهزيمة التي قد يكون لافروف هو الأكثر إحساسا بها، وسيبقى العمر الزمني لهذا المحور لسنين للخروج من مأزقه.
أما محورها الثالث فهو المحور الإعلامي، والذي تبدو فيه وسائل الإعلام الروسية باهتة وغير قادرة على مواجهة الفيضان الإعلامي الغربي والخليجي العربي، لكن اثر هذا المحور هو الأقل أهمية قياسا للمحاور الأخرى وسيتوارى تدريجا وبقدر نسبي مع جهود الوساطة والوصول إلى اتفاق بين المتنازعين.
المحور الرابع: المحور الاقتصادي متمثلا في الحصار الاقتصادي، وهو محور مهم ويعول عليه الغربيون تعزيز مكاسبهم في كل من المحور الثاني والثالث(سياسيا وإعلاميا)، وهو ما سأتوقف عند تفصيلاته لاسيما انه سيكون له تأثير استراتيجي طويل الأمد.
أهداف الحصار وشموليته:
تتمثل أهداف الحصار الاقتصادي الغربي في إضعاف الإمداد السوقي (Logistic) والقدرة على الإنفاق على الحرب من ناحية ، وخلق من ناحية ثانية حالة من “عدم شرعية النظام الروسي وتكريس هذه الحالة إقليميا (أوروبا تحديدا) ودوليا (عبر الهيئات الدولية) ومحليا عبر توسيع الفجوة بين المجتمع والحكومة الروسية بسبب آثار الحصار على المجتمع الروسي ونخبته لاسيما الاقتصادية منها.
ولتحقيق هذين الهدفين اشتمل الحصار على:
1- تجميد ودائع البنك المركزي الروسي بشكل لا يجعله قادرا على استخدام هذه الودائع بالدولار.
2- منع التعامل مع البنك المركزي ووزارة المالية والصناديق المالية الروسية من قبل الأشخاص أو المؤسسات التجارية.
3- إخراج روسيا من نظام swift لتحويل الأموال بين البنوك.
4- الخفض التدريجي لاستيراد الغاز والبترول من روسيا.
5- تجميد ودائع شخصيات روسية.
6- منع توريد بعض أنماط من السلع التكنولوجية بخاصة ذات الاستعمال المزدوج(عسكري/مدني) وسلع أخرى.
7- تجميد ألمانيا مشروع أنابيب غاز الشمال وقيمته عشرة مليارات دولار.
8- إغلاق الأجواء الأوروبية في وجه الطيران الروسي ومنع بيعها قطع الغيار للطائرات.
9- تجميد ودائع أو فرض قيود على التعامل مع بعض القيادات الروسية او النخب العامة.
الآثار الأولى للحصار:
تتمثل الآثار الأولى للحصار في المظاهر الاقتصادية الأكثر وضوحا حتى الآن:
1- انخفاض العائدات التجارية.
2- تذبذب سعر الروبل بانخفاض بلغ من 76 روبل للدولار قبل العملية العسكرية بأيام إلى 143 روبل بعد أسبوعين من العملية.
3- ارتفاع نسبة التضخم لتصل (9%) وصعوبة مواجهته في ظل القيود على البنك المركزي الروسي.
ثقوب في جدار الحصار:
عند تقييم اثر الحصار على روسيا اقتصاديا يجب الإقرار أن الضرر أمر لا يمكن إنكاره، لكن الروس لم يؤخذوا على حين غرة، بل استعدوا للمعركة الاقتصادية وهو ما تؤكده المعطيات التالية:
أولا: تشير مؤسسات رصد إبعاد الحصار الاقتصادي على روسيا انه يضم (5581) بندا أي بزيادة عن بنود الحصار قبل العمليات العسكرية (في 24 فبراير الماضي) والتي كانت 2754 بندا وازدادت 2827 بندا أي أكثر من 100%.
لكن كل هذه الأبعاد بدت وكأن الروس توقعوها مسبقا مستفيدين من تجربة العقوبات عليهم بخاصة عام 2014 اثر أزمة جزر القرم الى جانب تجارب الحصار الأخرى على عدد من الدول، وهم يدركون أن 34% فقط هي نسبة نجاح الحصار في تحقيق أهدافه منذ 1950 وفي 188 حالة .
ولعل الدول التي تتعرض حاليا لحصار تقدم نموذجا على مستويات الفشل في تحقيق الحصار أهدافه الإستراتيجية، فإلى جانب روسيا التي يشمل الحصار عليها (5581) بندا هناك إيران (3616) بندا وسوريا(2608) بندا وكوريا الشمالية (2077) بندا وفنزويلا (651) بندا وميانمار (510) بندا وكوبا (208) بندا، لكن السؤال الأهم هو كم من هذه الدول غيرت من سياساتها الإستراتيجية بسبب هذه الآلاف من بنود الحصار؟
يكفي ان نتوقف أمام النموذج الإيراني، فإيران تمكنت من الصمود في وجه الحصار المماثل تقريبا رغم الفارق في الإمكانيات مع روسيا، وقبل بدء العمليات العسكرية في أوكرانيا كان عدد بنود الحصار ضد إيران يفوق عدد بنود الحصار على روسيا بسبب موضوع القرم بحوالي 862 بندا، ورغم حجم العقوبات وطول مدتها تشبث الإيرانيون بمواقفهم.
ثانيا: من ثقوب العقوبات الغربية على روسيا هو استثناء المدفوعات من الخارج التي تغطي قطاع الطاقة من غاز أو بترول، فعدم شمول قطاع النفط والغاز بالحصار خوفا على الأوضاع في أوروبا بخاصة ألمانيا وبولندا وايطاليا وغيرها، فان تأثير نظام swift سيبقى هامشيا طالما ان هذا القطاع الحيوي معفى من الحصار على مدفوعاته، والى ان يتمكن الأوروبيون من تطوير تكنولوجيا او بدائل للطاقة الروسية فان الامر غير متيقن منه وقد يطول رغم القرار بتخفيض الاعتماد الى الثلث مع نهاية 2022 والوصول الى الاستقلال الطاقوي عن روسيا-اذا أمكن- مع عام 2030.
ثالثا: موضوع إحتياطيات النقد في البنك المركزي الروسي: وهذه تستحق الإشارة في موضوعها لجوانب ثلاثة هي :
أ- أن حجم الاحتياطيات النقدية الروسية حاليا تزايد ليصل حاليا إلى حوالي 630 مليار وبفارق كبير عن الوضع عام 2014، ما يعني أن الآثار التي عاناها الاقتصاد الروسي في هذا الجانب أصبحت اقل قسوة وبقدر كبير عن مرحلة عقوبات معركة جزر القرم.
ب- إن جزء معينا من هذه الاحتياطيات هو بالذهب والبعض بعملات غير الدولار.
ت- معلوم أن روسيا بدأت منذ 2014 بتقليص احتياطياتها النقدية في بعض الدول التي تتوجس منها وتحويل هذه الاحتياطيات لدول أخرى أكثر اطمئنانا لها، فمثلا خلال الفترة من 2014 إلى 2021 حركت احتياطياتها بحيث خفضتها في الولايات المتحدة من 32% الى حوالي 8% وفي فرنسا من 33 % إلى 17%، وفي المانيا من 18 الى 13، وزادت من هذه الاحتياطيات في الصين بمعدل 17% وفي المنظمات الدولية 4% وفي بقية الدول الأخرى غير الغربية بحوالي 11%وهي نفس النسبة في اليابان ايضا، وهو ما يجعل الضرر يتقلص بنفس نسبة الانتقال للاحتياطي..
رابعا: إن الشركات التي أعلنت انسحابها او تجميد نشاطاتها بخاصة في القطاع الأكثر أهمية وهو النفط (مثل شركات BP- Shell- Equinor -Exxon Mobil) او الشركات المالية مثل (Visa and Mastercard )ناهيك عن شركات عملاقة أخرى (مثل Apple, Airbnb, Boeing, Google, Microsoft, Netflix, Paypal PwC, Spotify and TikTok…الخ.) تواجه المخاطر في احتمال تأميم موجودات هذه الشركات في روسيا، وهو أمر ناقشته اللجنة الاقتصادية في الدوما الروسي، وفي حالة حدوثة سيتم التعويض عن بعض الخسائر من أصول هذه الشركات.
خامسا: إن نسبة الديون الروسية إلى إجمالي الناتج المحلي الروسي هي 18% وهى الأفضل بين أغلب الدول الصناعية تقريبا، ما يجعل أعباء الوفاء بفوائد ديونها اقل ثقلا.
سادسا: تزايد استخدام روسيا لبطاقات الدفع مثل MIR والتحول نحو نظام تحويلات وضعته مثل SPFS ، مما يقلص من وطأة إخراجهم من نظام Swift
سابعا: تشير الخبرة التاريخية الروسية لعامي 2008 و2014 أنه في أزمة شبه جزيرة القرم عام 2014، أدت العقوبات إلى منع البنوك الغربية من تمويل عمليات كبيرة قبل التصدير للتجار الروس في السلع الأساسية مثل روسنفت وغازبروم نفت.
ومع ذلك، وجدت هذه البنوك طريقة للتغلب على ذلك من خلال توفير صفقات “الدفع المسبق” الكبيرة لتجار السلع مثل جلينكور وفيتول، الذين قاموا بعد ذلك بإقراض الأموال في قطاع السلع الأساسية الروسي، أي ان الامر اخذ طابع الطريق الالتفافي.
ثامنا: منذ أزمة القرم اخذ اغلب التجار الروس يحتفظوا بمداخليهم من الدولار داخل روسيا توقعا منهم باحتمالات التضييق على حصولهم على الدولار في مرحلة لاحقة، وهو ما نشاهده الآن.
تاسعا: عند التدقيق في الجهات الروسية المستهدفة من الحصار نجد ان عددها هو 2819 جهة، منهم 2453 فردا مقابل 366 مؤسسة او شركة، مما يعني ان ثقل الحصار هو على الأفراد أكثر منه على هياكل الإنتاج الى حد معين.
عاشرا: ان نسبة مساهمة صادرات الغاز الروسي في إجمالي دخل الموازنة الروسية هو 13%، مع ضرورة التنبه الى ان الاعتماد الأوروبي على روسيا في قطاع الطاقة ككل يبلغ حوالي 47% من الفحم و 41% من الغاز و 27% من النفط، فإذا علمنا ان واردات أوروبا من الغاز هو 400 مليار متر مكعب، وان معدل الواردات من روسيا هو حوالي 180 مليار متر مكعب، فهذا يعني ان على أوروبا ان تجد مصادر بديلة لتوفير 180 مليار متر مكعب، وهو أمر غير ممكن حتى في حالة تخفيض الاستهلاك بنسبة عالية وزيادة الواردات من الغاز المسال (الميثان) وقدرة المنتجين الآخرين على التعويض النسبي، وهي كلها امور يصعب تحقيقها بشكل كبير.
ورغم ان النفط يمثل 25% تقريبا من الدخل الروسي ،فان القدرة الأوروبية على الضغط على روسيا هي أعلى بشكل كبير من القدرة على الضغط من خلال الغاز، لكن حظر استيراد النفط الروسي سيتسبب في ارتفاع الاسعار للنفط بشكل يجعل بعض الدول غير الأوروبية تعمل على إفشال هذا المسعى (مثل الهند او الصين) نظرا للتكلفة العالية التي ستترتب على هذا الحصار، ناهيك عن الالتزامات بين دول الأوبك مع اوبك + (وروسيا أبرزهم).
احد عشر: استحدثت روسيا بطاقات دفع بديلة للفيزا وغيرها ، وهي الآن تغطي حوالي 30% من بطاقات الدفع في روسيا، وهو أمر لا يحل المشكلة لكنه يخففها.
ماذا يعني ذلك؟
أن انتظار تغير السياسة الروسية في أوكرانيا هو امر مستبعد بقدر كبير إذا استند هذا الانتظار إلى تأثيرات الحصار الاقتصادي على روسيا، وهو ما سيدفع الى توجهات دولية قد تنطوي على تحولات جيوسياسية أولا تليها تحولات جيواستراتيجية.. ربما.