منذ بداية “الغزو” الروسي لأوكرانيا عبّر المراقبون عن مخاوف من عودة سياسة حافّة الهاوية النووية التّي عرفتها الحرب الباردة، خاصّةً مع تحذير الروس خصومهم بشكلٍ واضحٍ من احتمال حدوث ردٍّ نوويٍّ في حالة تدخّل واشنطن والناتو في هذه الحرب.
ترى إيما أشفورد وجُشْوَا شِيفْرِينْسُون، في “كيف يمكن أن تصير الحرب في أوكرانيا أسوء بكثير”، بأنّ التركيز الشديد على التصعيد النووي يحجب مشكلةً لا تقلّ خطورةً والمتمثّلة في خطر التصعيد التقليدي غير النووي بين روسيا والناتو. فقد دخل الطرفان في دوامّةٍ من التصعيد المتبادل وانعدام الأمن بشكلٍ يُنذرُ باندلاع حربٍ كبرى في أوروبا.
ويُسلّط هذا المقال الضوء على هذا الخطر التقليدي وكيفية نشوئه، كما يُقدّم في النهاية توصياتٍ قد تمنع حدوث كارثةٍ دمويةٍ أكبر، خاصّةً وأنّ الأسبايع المُقبلة قد تكون أكثر خطورةً كما يُحاجج الكاتبان.
انعدام الأمن
ينقسم المقال إلى ثلاثة أقسام. يشرح الكاتبان في القسم الأول مفهوم “دوّامة انعدام الأمن” في الدراسات الأمنية. فحينما تنتهي الخيارات التّي تتّخذها دولةٌ ما لتعزيز مصالحها بتعريض مصالح دولةٍ أخرى للخطر –والتّي تستجيب للأولى بالضرورة- تنشأ دوامة انعدام الأمن وتكون النتيجة عبارة عن حلقةٍ مُفرَغةٍ محتملةٍ من التصعيد غير المقصود.
حدث ذلك مرّاتٍ عديدةٍ في التاريخ، أشهرها كان محاولة ألمانيا في مطلع القرن العشرين بناء بحريّةٍ عالميةٍ، الأمر الذّي هدّد القوة البحريّة للمملكة المتحدة فردّت الأخيرة بحشد قواتّها البحرية، لتستجيب ألمانيا بالمِثل، هكذا تمّ تهيئة المشهد لاندلاع الحرب العالمية الأولى.
وحاليًّا تقع الولايات المتحدة وروسيا في هذه المعضلة بعدما انخرطتا طيلة حقبةِ ما بعد الحرب الباردة في حركةٍ بطيئةٍ من التصعيد، سعى في خضّمها كلٌّ منهما لإعادة تشكيل الأمن الأوروبي حسب رغبته محاولاً الحدّ من استجابة الطرف الآخر.
اتّبع الطرفان خطواتٍ حاسمةٍ من الفعل وردّ فعل منذ سنة 2007 أوصلتهما إلى حافّة المواجهة المباشرة في الحرب الأوكرانية القائمة.
على سبيل المثال، أدّت الوعود الأمريكية سنة 2008 بضمّ أوكرانيا وجورجيا لحلف الناتو إلى غزو الروس لجورجيا في ذات السنة.
في سنة 2014 أدّى عرض الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا توقيع اتفاقية شراكةٍ إلى اندلاع “ثورة الميدان” في كييف (بعد رفض حكومة يانوكوفيتش توقيعها)، فزادت مخاوف روسيا من عضوية أوكرانيا في الناتو ودفعها ذلك إلى الاستيلاء على شبه جزيرة القرم في ذات السنة.
أمّا اليوم ترى موسكو أنّ واشنطن وحلفائها يُهدّدون فعليًا بضمّ أوكرانيا للناتو، بينما ترى واشنطن بأنّ روسيا تُهدّد المبادئ الأساسية للسلام في أوروبا. يستمر التصعيد القاسي بينهما وقد يحتاج الأمر إلى شرارةٍ واحدةٍ فقط لإشعال حريقٍ أوسع نطاقًا.
طريق مسدود
في القسم الثاني يُحاجج الباحثان بأنّ الدول النووية التّي يصل الصراع فيما بينها إلى طريقٍ مسدودٍ تكون أكثر استعدادًا للتصعيد بالمعنى التقليدي، هذا ما يُسمّى بــ “مُفارقة الاستقرار-عدم الاستقرار” التّي تعني أيضًا “دوّامةً متسّعةً من انعدام الأمن”.
لذلك لا ينبغي على صنّاع القرار استبعاد مخاطر الحرب التقليدية بين الناتو وروسيا، خاصّةً وأنّ التاريخ مليئ بأمثلةٍ كهذه. يُمكن للتصعيد واسع النطاق أن يحدث لأسبابٍ عديدة، قد تكون الحرب الاقتصادية، التّي شنّها الغرب ضدّ روسيا بدايةً له. خاصّةً وأنّ الغرب لم يستخدم مثل هذه العقوبات القاسية من قبل ضدّ اقتصادٍ عالميٍ كبيرٍ مثل روسيا، فيبقى جاهلاً بآثارها.
قد تُحدث العقوبات الاقتصادية ضررًا شديدًا على روسيا فيُقرّر بوتين الانتقام عبر وسائلٍ غير عسكريةٍ كالتخلّي عن عائدات الطاقة وإغلاق بعض خطوط أنابيب الغاز المتجّهة نحو أوروبا ممّا يؤدّي إلى ارتفاع أسعار الطاقة، أو عبر شنّ هجماتٍ سيبرانيةٍ ضدّ أهدافٍ غربية.
قد يُحدث ذلك نتائجًا عكسيّةً فيردّ الناتو بهجماتٍ سيبرانيةٍ انتقاميةٍ ضدّ روسيا، لتستمر الدوّامة في الاتّساع. إضافةً إلى ذلك، قد يحدث التصعيد واسع النطاق بسبب امتداد الحرب في أوكرانيا عبر الحدود المجاورة لدول الناتو في شرق أوروبا القريبة جغرافيًا من روسيا والأكثر حساسيّة تجاهها كبولندا ودول البلطيق الثلاث.
فقد يؤدّي اختراق القوات الروسية للمجال الجوّي أو البرّي لهذه الدول إلى استنفارها ومباشرتها لعملٍ فرديٍ مستقلٍّ ضدّ روسيا فتُدخل الناتو معها في صدامٍ مباشر مع روسيا، خاصّةً وأنّ هذه الدول تدعو صراحةً لتسليح أوكرانيا ودعم تمرّد الأوكرانيّين ضدّ روسيا بكلّ الطرق.
ماذا ستفعل أمريكا؟
ماذا ستفعل الولايات المتحدة مثلاً لو قصفت روسيا مُعسكرًا أوكرانيًا متواجدًا بالأراضي البولندية ويعمل من هناك؟ لهذا يُحاجج الباحثان بأنّ مخاطر نشوب حربٍ أوسع تزداد بشكلٍ كبير.
يُقدّم القسم الأخير مجموعةً من التوصيات لإدارة بايدن لأجل تجنّب الوقوع في حربٍ أكبر وأكثر دموية، داعيًا إيّاها للاستفادة من دروس التاريخ.
يدعو المقال الادارة الأمريكية لأن تكون أكثر كبحًا للنفس تجاه التطوّرات الميدانية في أوكرانيا مع تقدّم القوات الروسية وزيادة الغضب الأخلاقي من تصرّفات روسيا في الغرب.
كما لا يجب أن تنصاع بسهولة وراء دعوات حلفائها الأوروبيّين لصدّ روسيا، خاصّةً دعوات الدول القريبة جغرافيًا من روسيا، حتّى لا تتحوّل واشنطن إلى طرفٍ مشاركٍ في القتال. يجب أن تكون واشنطن مستعدّةً لكبح حلفائها أيضًا.
علاوةً على ذلك، قد تحتاج الولايات المتحدة في مرحلةٍ ما إلى استخدام نفوذها على الجميع بهدف إنهاء الصراع في أوكرانيا وإيجاد تسويةً ما مع روسيا، قد تحتاج إلى إلغاء العقوبات القاسية جدًّا على روسيا أو تقليص المساعدة الأمريكية والغربية لأوكرانيا لأنّ البديل سيكون الانجرار إلى انخراطٍ عسكريٍ مباشرٍ مع روسيا.
قد تُمثّل خطوةٌ كهذه تغييرًا جذريًا في سياسة الولايات المتحدة، لكن النظر الجادّ في مصالح الولايات المتحدة قد يتطلّب تعديلاً كهذا في المسار لأجل تجنّب حربٍ أكبر وأكثر دموية.
المصدر: إيما أشفورد وجُشْوَا شِيفْرِينْسُون، “كيف يمكن أن تصير الحرب في أوكرانيا أسوء بكثير”.
إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، البوصلة الجيوبوليتكية، مركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية، إسطنبول-تركيا 2022.
المقال يعبر فقط عن وجهة نظر المؤلف.