كتب البروفيسور وليد عبدالحي مجموعة من المقالات تشترك في عنوان بسيط هو “كتاب قرأته”، يستعرض فيها محتويات كتب علمية مختارة بطريقة علمية مختصرة.
اسم الكاتب: محمد نورالدين افاية
عنوان الكتاب: النهضة المعلقة
سنة النشر: 2020- المركز الثقافي للكتب- الدار البيضاء- المغرب
أربعة أقسام، وثلاثة عشر فصلا، و417 صفحة بما فيها المقدمة، هي البناء الشكلي لهذه الدراسة، تبدأ مقدمته بالدعوة إلى النهوض المستند للعقل، لكن هذا العقل بات تقنيا ويحد من فردانية الفرد سياسيا، ويضبط السلوك عبر حداثة جديدة تدخل في مساومات مع البنيات التقليدية وما تختزنه الذاكرة الجمعية أو المتخيلة كما هو الحال عربيا.
وعليه لابد من اكتساب المعرفة المتجددة ضمن بيئة عصرية سياسيا وثقافيا.
في الفصل الأول يبدأ البحث بإشكالية دور الداخل والخارج في الإصلاح، ودور المثقف في هذه الإشكالية، وبعد الإشارة لعدم وجود نموذج تنموي “في المغرب” بعد ذهاب نموذج 2006 دون نتيجة، يستعرض جوانب الخلل من فساد وفروق طبقية ومديونية وهجرة الكفاءات ..الخ.
وبعد مطالبة النخبة تغيير نظرتها للفرد المغربي، والتأكيد أن النهضة ليست مرهونة بالإقلاع الاقتصادي، بل يجب أن يجاريها حس تضامني والتأكيد على رأس المال غير المادي (الثقافة والأخلاق) وأهمية اعتماد مفهوم للنهضة يقوم على حقوق الإنسان.
ثم يناقش في الفصل الثاني كتاب عبد الله العروي “الآيديولوجيا العربية المعاصرة، إذ يرى العروي انفصالا بين مضمون الأدبيات العربية المعاصرة وبين العصر، وهو ما أنتج ” سوء فهم” النخبة للعروي بخاصة موقفه من الحداثة وعدم القدرة على توليدها من داخل التراث، في الفصل الثالث يناقش تياران للإصلاح: تيار الاعتماد على الداخل لمواجهة الخارج، وتيار يتكئ على الخارج لمواجهة الداخل(نموذج العلاقة مع البنك الدولي وغيره)، ثم يعالج ضغوط العولمة على مكانة ووظيفة الدولة العربية، أما الفصل الرابع، بعد الإشارة إلى تكوين المجتمعات صورا ذهنية عن بعضها البعض، يناقش ظاهرة الإسلاموفوبيا من هذه الزاوية، مشيرا لدور استطلاعات الرأي ومراكز الأبحاث في رسم هذه الصورة، ثم ينتقل للصورة المقابلة الخاصة بصورة الغرب (الإغريقي والمسيحي الإقطاعي والدولة الغربية القومية والغرب الأطلسي) في الذهن العربي الإسلامي، مشيرا الى مركزية الحروب الصليبية في هذا المجال.
ويرى ان العرب يتأرجحون بين النموذج الغربي وبين نموذجهم التاريخي.
ينتقل في الفصل الخامس إلى نوع من السرد التاريخي للعلاقة العربية الإسلامية مع الغرب عبر مراحل أربع: الحروب الصليبية- الأندلس-حملة نابليون – الاستعمار الحديث بدءا من احتلال الجزائر، ويشير الى طبيعة صورة الغرب في كل مرحلة من خلال نماذج فكرية وسياسية (محمد علي- جمال الدين الأفغاني- الطهطاوي- محمد عبده- ابن الموقت المراكشي).
في الفصل السادس يجعل من توجهات طه حسين هي مادته التي تتلخص رؤيته فيها ان الفرق بين الثقافة الغربية والثقافة الشرقية ان الأولى معنية” بفهم الطبيعة” فلسفيا بينما الثانية تسعى لفهم ديني فأفرزت الأولى الفلسفة والحرية بينما أفرزت الثانية الكهانة والشعر.
ثم يتابع كتابات طه حسين مركزا على دراسته عن مستقبل الثقافة في مصر، في الفصل السابع يكرر ثنائية الصورة للغربي (المخترع من ناحية والصليبي من ناحية ثانية)، ويحدد موضوعه هنا في أمريكا وتركيبتها وقيمها (بخاصة القوة والبراغماتية) مؤكدا ان أزمة النظام الدولي المعاصر هي في فرض أمريكا ثقافتها بالقوة، مشيرا للنموذج الآسيوي وأهمية دوره دون ان يتوقف عنده.
يؤكد في فصله الثامن على دور الاتصال في رسم صور المجتمعات ووظيفة الثقافة في هذا الجانب، لكنه ينبه إلى القصدية الثقافية وراء كل اتصال، وكيف عقدت تكنولوجيا الاتصال المشهد بعد تكريس “الديمقراطية الالكترونية”، ودرس في الفصل التاسع تأثير العولمة على الثقافة العربية بخاصة من جانبيها الأهم “الدين واللغة”.
ويشرح دور الإعلام وانتشار الفضائيات في تعزيز التباينات الثقافية الداخلية لاسيما ان اغلب مادته مستوردة. وفي الفصل العاشر يناقش دور السينما “كفن ديمقراطي” بينما التلفاز أداة لبناء الهويات (ويناقش في هذا المجال التجربة المغربية)، أما الفصل الحادي عشر والذي تركز على المجتمع المدني ودوره في الحوار مع السلطة العمومية مع مناقشة علاقته بالتمدين (مركزا على المدينة المغربية).
وفي الفصل الثاني عشر يناقش علاقة المعرفة بالحرية والنهضة في ظل العلم المفتوح الذي وفرته التكنولوجيا، مشيرا الى أهمية البحث العلمي وضوابطه الأخلاقية من ملكية فكرية وغيرها مستعرضا مشاكله في العالم العربي، الفصل الأخير يؤكد فيه على ان التكنولوجيا الرقمية تعزز مساحة المعرفة لكنها تكرس الفردانية، رابطا ذلك بما اسماه الإنسان المستزاد (تداخل الإنسان والآلة) وعواقب ذلك.
وفي خاتمته يكرر سلبيات المجتمع العربي من استبداد داعيا للديمقراطية والتدافع السلمي.
مناقشة الكتاب:
تقتات هذه الدراسة على عدد من العلوم الإنسانية والاجتماعية (الفلسفة وعلم الاجتماع والنقد الأدبي ودراسات التنمية والإعلام وإطلال عابر على علم النفس)، ويمكن تحديد القسمات الأساسية للدراسة في ثلاث هي: الجهود الفكرية لانجاز النهضة العربية، رصد معوقات النهضة من خلال هذه الدراسات، اقتراحات لمعالجة المعوقات، وقد جاءت هذه الاقتراحات متناثرة في الدراسة.
ومن هنا فان مضمون الدراسة يحدده العنوان لها “النهضة المعلقة”، أي لماذا لم تنجز النهضة العربية رغم الدعوة لها منذ فترة طويلة وبمشاركة المفكرين العرب من كافة المدارس الفكرية ذات المرجعيات الدينية او القومية او الليبرالية او الماركسية؟.
في تقديري، إن الدراسة لم تقدم لنا أي مقترح جديد للتعاطي مع مأزق النهوض، بل قامت الدراسة على اجترار ما قاله المفكرون المشار لمدارسهم أعلاه (الأفغاني-محمد عبده، طه حسين، العروي، المراكشي، الجابري، الخ)، كما أن النظرة القطرية طغت على الكثير من فصول الدراسة وهو يتضح في النموذج المغربي بخاصة في الفصول الأربعة الأخيرة.
علما ان تقاليد الدولة او مركزيتها في التاريخ العربي الإسلامي تختلف بين دولة عربية وأخرى، فالحديث عن المدينة المغربية في عمقها التاريخي لا يتسق والتعميم على الكثير من المدن الخليجية مثلا.
من جانب آخر، كان مستوى التحليل متباينا بشكل واضح بين فصل وآخر، وأكاد أجزم أن مستوى العمق في التحليل عند المقارنة بين الفصول يتناقص تدريجيا إلى أن يصل لمستوى الخواطر الصحفية وهو ما يتضح في الفصول 8 و9 و11.
هذه الدراسة تشكل استمرارا لتيار فكري يسود المغرب العربي ويحاول أن يقدم رؤية فكرية تخرج العرب من مأزقهم الراهن، ويبدو لي ان دراسات الجابري وأركون وجعيط وآخرين قلة شكلوا “أبطال هذا المسلسل”، وتقاطر الآخرون ليحوموا حول الحمى او وقعوا فيه فعلا، ولم أجد نقلة نوعية بين كل هذه الأدبيات اللاحقة والتي اطلعت على القدر الكافي منها نظريا وميدانيا.
لو تتبعنا مضمون الفصول الثلاثة عشر سنجد ان جوهرها هو دعوة للحرية، الديمقراطية، العلم، التكيف مع وسائل الإعلام والاتصال الجديد (الاعلام الرقمي)، ضبط التوسع المديني…الخ،، وهذه دعوات “بُحّ صوتُ المُنْشِدِ” من تكرارها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لماذا لا يذهب المفكرون العربي لدراسة التجارب التنموية في الصين واليابان وسنغافورة وماليزيا وبدأت الهند اللحاق بها؟
كيف انتقلت الصين من المرتبة 36 عالميا عند وفاة ماوتسي تونغ عام 1976 الى المرتبة الاولى حاليا في اجمالي الناتج المحلي على اساس القيمة الشرائية (Purchasing Power Parity) وليس القيمة الاسمية (Nominal)، هل تم ذلك دون مرجعيات فكرية وفلسفية وثقافية وأخلاقية؟ بخاصة ان مستوى التقارب بين البنية الثقافية العربية الإسلامية وبنية الثقافة الآسيوية اكبر من مستوى التقارب مع البنية الثقافية الغربية، فالباحث العربي” مستعبد طوعيا” كما هي حال النظم السياسية، فهولا يرى الا النموذج الغربي، ورغم نقد باحثنا لهذا الاستعباد الطوعي (ص 383-385) الا انه انضم له رغم تلميحه للنموذج الآسيوي (انظر الفقرة الأخيرة من صفحة 235)، ربما كان سيقدم لنا جديدا لو تحررا من أسر اجترار المنظور الغربي.
وعند بلوغ الكاتب خاتمته، أعاد رسم المشهد المأساوي العربي بخاصة الثقافي والاستبداد السياسي إلى غير ذلك من ملامح، ولم يقدم لنا أي مخرج من دائرة التخلف سوى إعادة التأكيد على مظاهره فقط، ثم إذا استثنينا إشارات كمية عابرة (ص-269 و273) عن إعداد الفضائيات العربية الخاصة والعامة، فان الدراسات الكمية او منهج التحليل الإحصائي غاب في مجالات يجدر حضوره فيها مثل: التنمية، البحث العلمي، التمدين (الحضرية) استطلاعات الرأي …الخ.
أرى أن هذه الدراسة ليست أكثر من مقالات تم تجميعها من ملخصات “منتجات” الباحث، وهو ما جعلني لا استطيع تحديد او تحسس المتغير المركزي في مشروع النهضة المعلقة في هذا الكتاب.
الى جانب ما سبق، تغلب على هذه الدراسة سمة التوصيف للواقع وتقديم الاقتراحات المكررة في اغلب الأدبيات العربية ذات العلاقة بالنهوض، لكن الاجابة على “كيف يتم ذلك هو الجانب الغائب، فالموضوع المركزي في الدراسة هو موضوع النهضة، ولماذا لم تنجز في الواقع العربي؟ وغلب على الدراسة تلخيص الجهود الفكرية ببعض المقارنة بينها، لكن الكاتب أشار في أكثر من موضع الى معوقات النهضة، وكان يضعها تحت عنوانين عريضين: معوقات داخلية (الاستبداد السياسي، التخلف الثقافي، الاعلام والاتصال غير المتطور او غير المستجيب لمقتضيات العصر..الخ) ومعوقات خارجية (الاستعمار، الصورة الذهنية عن الغرب..الخ)، لكن المقارنة بين ثقل البعدين لم يتم التطرق لها البتة، ومن هنا بقي سؤال اي البعدين هو الأكثر مسئولية عن “تعليق النهضة” هو الآخر معلقا؟ ثم ما هو المعوق المركزي في البعد الداخلي؟ وما هو المعوق المركزي في البعد الخارجي؟ هل التدخل العسكري المباشر هو المعوق المركزي ام العولمة بأبعادها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟
وفي البعد الداخلي لمن الثقل: للفروق الطبقية ام للثقافة الدينية ام للبنية القبلية او للهويات الفرعية ام لسرعة التغير وصعوبة الانساق المختلفة في التكيف؟ هي عوامل متداخلة، ولكن من أين نبدأ؟
لو اطلع الكاتب على برنامج التحديثات الأربعة في الصين- كمثال- ورأى البنية الرياضية لمعادلة النهوض لأعاد النظر في منهجية الوصف المضطرد.
من جانب آخر، أرى ان الترابط بين أجزاء الدراسة فيه ثغرات كثيرة، وقد انتهج الكاتب منهجا تجزيئيا (Reductionism) وعوّل على ذلك كثيرا، بينما بناء مصفوفة التأثير المتبادل بين متغيرات النهضة من خلال المنهج الكلاني (Holism) يعطي أساسا لاستراتيجيات التخطيط النهضوي، فالكل –كما يقول سمتس (Smuts) أكبر من مجموع أجزائه، ومن هنا فان المنهج الاختزالي او التجزيئي يحرم الفكر العربي من الأطلال على الفائض المتولد من مجموع الأجزاء. (في الماء خصائص لا هي في الهيدروجين ولا هي في الأوكسجين رغم انه مكون منهما).
نعم نجح الكاتب في وصف قوى الإعاقة والتعليق للنهضة، لكنه لم يتجاوز ذلك قيد أنملة، وغرق في اجترار أفكار من تمت الإشارة لهم من مفكري النهضة العربية المأمولة.
من جانب آخر، كان الباحث يطلق أحكاما دون التحقق من دقتها، ففي صفحة 223-الفقرة الاولى، يشير الى ان احدا لم يتوقع سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو حكم غير دقيق، ويكفي ان أشير إلى مثال واحد (ولدي غيره) على التنبؤ بذلك ومن احد نخب الاتحاد السوفييتي والذي قتل بسبب كتابه في باريس: انظر:
Amalrik, Andrei-. Will the Soviet Union Survive Until 1984?. New York: Harper & Row. 1970 .