كانت الجزائر من الدول النامية القليلة التي طالبت بنظام دولي جديد وعبرت عن هذا صراحة في الأمم المتحدة في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
المبررات المقدمة في هذا الإطار منطقية ومتوافقة مع تلك المطالب، لاسيما وأن الدول النامية لم تشارك في تأسيس وصياغة المبادئ التي يقوم عليها هذا النظام أو المؤسسات والمنظمات المكونة له، إذ كانت تئن تحت وطأة الاستعمار، والنظام القائم حينها لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول المستقلة حديثا.
بالعودة للحرب الروسية الأوكرانية الجارية رحاها هذه الأيام. يُجزم الكثير من المفكرين لاسيما الغربيين منهم أنها ستؤسس لنظام دولي جديد متعدد الأقطاب لا تكون فيه الكلمة العليا لقوة واحدة مهيمنة، فعالم ما قبل الحرب الروسية-الاوكرانية لن يكون نفسه عالم ما بعد الحرب.
وما يهمنا في هذا التحول المفترض بشكل عام مصلحة الجزائر في هذا النظام الجديد، لاسيما وأن معظم الدول تحاول الاصطفاف والخروج بموقف من الحرب الروسية-الأوكرانية لا يكون له تأثير على مكانتها مستقبلا وعلاقتها بأقطاب هذا النظام. ولم نشهد منذ سنوات طويلة اهتماما عالميا بمسألة التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول قضية ما كما وقع في مارس الماضي حول مسألة التصويت لإدانة العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا.
وإن كان التصويت حسابيا (141 صوتت لصالح الإدانة) يظهر إدانة دولية لروسيا لشنها عملية عسكرية ضد جارتها أوكرانيا، فالمتتبع للبيانات التوضيحية التي أصدرتها العديد من الدول بعد التصويت لشرح موقفها بشيء من الدقة وإزالة اللبس، أظهرت تفهما للمبررات الروسية المقدمة قبل بدأ العملية العسكرية والمتعلقة بحفظ أمنها القومي ومسألة تمدد حلف الناتو شرقا، إضافة الى رفض العديد منها (المصوتة لصالح وقف العملية العسكرية) سياسة الردع الاقتصادي والعقوبات الدولية أحادية الجانب التي طبقها الغرب ضد روسيا والعديد من الدول الأخرى في العقدين الماضيين لاسيما ايران، العراق وكوبا ما تسبب في هزات اجتماعية كبيرة كان لها الأثر البالغ على الشعوب لا الانظمة المستهدفة افتراضيا بهذه العقوبات.
حرب باردة جديدة
من السيناريوهات المحتملة بعد نهاية الحرب الروسية-الأوكرانية أو حتى خلالها اذ لا يستبعد استمرارها لسنوات طويلة، لاسيما أن روسيا اعترفت بجمهوريتين جديدتين شرقي أوكرانيا، أن نشهد ميلاد حرب باردة جديدة، فاجتياح روسيا لأوكرانيا، لن يقيم حائطًا راسخًا بين روسيا ودول القارة الأوروبية الأخرى وحسب، بل وسينجم عنه عودة الاصطفاف الأوروبي خلف القيادة الأميركية، وتخفيف تدريجي في اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية تحديدا الغاز الطبيعي حيث تمون روسيا أوروبا بـ 40٪ من حاجاتها، وخروج روسيا من المؤسسات الأوروبية، بما في ذلك مجلس التعاون الأوروبي، وتوجه أوروبي جديد نحو التسلح وزيادة الميزانيات الدفاعية، لاسيما وأن فرنسا ترى في تشكيل جيش أوروبي موحد ضرورة ملحة تفرضها الظروف الحالية، وعدم الاكتفاء بالحماية التي تقدمها الولايات المتحدة الأمريكية.
النظرة الجزائرية
لطالما رفضت الجزائر منذ استقلالها فكرة الاصطفاف والاستقطاب الدولي، فحتى خلال ذروة الحرب الباردة في القرن الماضي حافظت على نفس المسافة بين المعسكرين الشيوعي والغربي. وتتناسق هذه المواقف مع مبادئ حركة عدم الانحياز والتي تضم دولا، منها الجزائر سعت الى صياغة وتبني مواقف مستقلة عن قطبي النظام المتصارعين خلال الحرب الباردة. وإعادة بعث نشاط الحركة من جديد ليس مستبعد في ظل المعطيات الحالية لكن بأدوار جديدة تتوافق مع مستجدات العصر.
الموقف الجزائري من الحرب الروسية الأوكرانية بشكل عام لن يخرج عن هذا الإطار، واحترام سيادة الدول وعدم اللجوء الى القوة العسكرية لحل الخلافات مبدأ راسخ في السياسة الخارجية الجزائرية، والتصويت الجزائري في الجمعية العامة للأمم المتحدة يتناسق وهذا المبدأ المبني على عدم الانحياز الى أي طرف باعتبار روسيا أو والدول الاوروبية والغرب بشكل عام شركاء للجزائر، لكن المدلول السياسي لمسألة عدم اللجوء الى القوة العسكرية لا ينبغي أن يوضع في غير مقامه ويقصد به طرفي النزاع، فالتهديد باستخدام القوة ونصب صواريخ نووية على حدود دولة ما قد يفهم على أنه عمل عدائي يستوجب الرد.
ويضرب لنا عالم السياسي الأمريكي جون ميرشايمر مثالا في هذا الصدد، حيث يتساءل عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية في حالة ما أبرمت روسيا اتفاقا أمنيا مع كندا أو المكسيك يتم بموجبه نشر صواريخ بالستية على الحدود الامريكية. وفق هذه النظرة فقط يمكن فهم الحرب الروسية الأوكرانية .