لن تكون صدمة المستقبل التي بشرنا بها إلفين توفلر في مطلع السبعينات من القرن الماضي هي الخاتمة، بل هي التمهيد لكتاب ومسلسل الصدمات، فنحن مقبلون على تطورات تقنية ستهز منظومات القيم السائدة في العالم كله:
أولا: الوصول الى الإنسان الهجين المكون من نصف بشري ونصف آلي (cyborg)، فماذا سيترتب على هذه النتيجة؟ يخبرنا علماء البيولوجي والطب أن عشرات الأعضاء في الجسم تم استبدالها بتقنيات صناعية، والتطور في هذا المجال يسير نحو:
أ- زراعة رقائق الكترونية في الدماغ تجعل من غوغل مستقرا في رأسك.
ب- سيكون هناك سباق جينات بدلا من سباق التسلح بين المجتمعات لخلق مجتمعات كل افرادها آينشتاين أو ستيف هوكينغ.
ت- يمكن أن تعيش المخلوقات الجديدة في أماكن لم يكن الإنسان بنسخته الأولى قادرا على العيش فيها، مثل قيعان البحور والمحيطات والفضاء الخارجي.
ث- إذا تم السماح باستنساخ البشر، رغم المعارضة الرسمية حتى الآن، لتكرار نموذج “النعجة دولي” بشريا، فإن مفهوم الأسرة والأبوة والأمومة والقبيلة والعشيرة والقومية سيتغير تماما.
ثانيا: إن الانسان الهجين سيدفع نحو اعادة النظر في القوانين كلها، وفي اعادة النظر في النسيج الاجتماعي، وقد أثبت العقل البشري ان التراكم المعرفي وتحلل المفاهيم المحاطة بوجدان تاريخي واعادة التنظيم المستمر من مرحلة لأخرى في الوجود الانساني هو الذي يجب التنبه له لأنه ثابت من ناحية وله طابع خطي من ناحية ثانية.
ثالثا: فإذا كان توفلر قد نبهنا قبل خمسين سنة تقريبا في كتابه صدمة المستقبل باننا في الطريق لإلغاء المسافة والزمن (بمفهومهما العلمي) وبأن ايقاع التغير وتسارعه سيخلق شبكات علاقات تعيد النظر في كل منظوماتنا القيمة، فان كريس هابلز غري(Chris Hables Gray) يبشرنا في كتابه: المواطن السايبورغي: سياسات ما بعد العصر الانساني(Cyborg Citizen:Politics in Posthuman Age) بآفاق جديدة كان عالم الكيمياء بريجوجين، الحائز على جائزة نوبل قد بشر بها، إنه يرى ان تداخل الآلة والانسان ببعضهما سيمثل مرحلة ثورة اعتبرها اهم نقلة في التاريخ الانساني.
وهنا تتداعى سلسلة من الاسئلة المستقبلية:
– كيف سيكون شكل الحكومات.. أم اننا ذاهبون لحكومات روبوت كما تقول دراسة صادرة عن الاتحاد الاوروبي؟
– هل نحن على أعتاب مرحلة “الثنائية الجنسية”، أي أن تكون أنت نفسك ذكرا بشريا وأنثى صناعية في ذات اللحظة او العكس؟
– هل سيصبح الموت موضوع مناقشة إذا كان هناك استبدال لكل عضو تالف في الجسد؟
بالقطع كان الحديث قبل مئات السنين عن الغاء المسافة والزمن امرا خياليا، لكنك الآن تعلم ان بعض الأطباء يجرون عمليات جراحية وهم على مسافة من مريضهم تفوق المسافة التي قطعها كولومبوس ليكتشف امريكا (33 يومأ)، وأنت ترى المتحاورين على شاشات التفلزيون يستمعون ويرون بعضهم رغم ان كلا منهم في قارة.. انهم يبحثون في تزويد الكومبيوتر والروبوت بالعواطف بكل اشكالها..وهناك الكثير مما يجري في مختبراتهم علانية حينا وسرا احايين اخرى.
إن العقل الراكد هو ذاته العقل الذي يغالبه الحنين إلى الثواء عند الأطلال، عيناه تنظران الى الخلف، بينما العقل الديناميكي هو الذي يغادر باستمرار، فهو قلق لأنه محروم من ألفة المكان ومن النازع المكاني، يسميها لورينز Territorial Drive ، لكنه أدمن السفر في قوارب المعرفة، فمكانه الكون وزمانه الحركة.
لقد زرع الاطباء قلوبا جديدة لـ47 شخصا، ثم سألوهم بعد العملية عن مشاعرهم فأجاب 44 منهم أن عواطفهم وميولهم لم يطالها أي تغيير، بينما قال ثلاثة إنهم يشعرون بالتغيُر، لكن اطباء النفس اخضعوهم للفحص فتبين ان التغير ناتج عن هواجس تركتها العملية الجراحية والخوف من شخصية المتبرع..الخ، بل ان المريض الجنوب الافريقي الذي زرعوا له قلب قرد أكد ان حبه لزوجته وابنائه ووطنه لم يتزعزع..فاين نذهب الآن بتراث كل شعراء القلوب..؟
إن الصدمات التي تلوح في الأفق تدعونا للتأمل، إنها تقول لنا إن القمر الذي جعلتموه مثالا للجمال والضياء تبين انه غبار وخواء وحتى الضوء مصدره من غيره…لقد ابلغنا العالم الروسي (A Negfaken) أن كل ما نتخيله قابل للتنفيذ في مرحلة لاحقة.
نعم إن المسافر الحقيقي هو الذي لا يصل، كما يقول الشاعر الألماني غوته..ربما.