أحدثت المواجهات العسكرية الروسية-الأوكرانية تغييرا في قواعد العلاقات الدولية السائدة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. ولم يحرك الغرب بكل أسلحته ساكنا أمام العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، واكتفى بالاحتجاج وفرض عقوبات اقتصادية.
ترى قراءات، علاوة على ذاك، أن هذه الحرب ستحدث تغييرا في العلاقات الأوروبية-الأطلسية، من الناحية الأمنية والعسكرية، بعدما طفى إلى السطح حديث حول ضرورة بناء جيش أوروبي موحد بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف شمال الأطلسي. وقد يكون لفرنسا تأثير على تقوية شجرته.
بداية
دخلت أوروبا تحت الحماية الأمنية الأمريكية غداة نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث خرجت أوروبا مدمرة. قدمت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا في 1947. وبعدها بسنتين شكل طرفا الأطلسي حلفا عسكريا لمواجهة المد الشيوعي.
من بين بنود الحلف الرد الجماعي على أي عدوان يطال أية دولة من داخل الحلف. وكان كفيلا خلال سبعة عقود بمنع حدوث ذلك. لكن وخلال الأحادية القطبية وجد الحلف صعوبة في التكيف مع الحروب الجديدة، فهي لم تعد بين الدول بل صارت داخل الدولة الواحدة، حروبا داخلية.
وشككت الحرب في البوسنة في نوايا الولايات المتحدة الأمريكية إزاء حفظ الأمن في أوروبا، حيث أنها لم تتدخل وتركت أوروبا لمصيرها في تلك الحرب الدامية. وتكرر الأمر بعد أكثر من ربع قرن مع الحالة الأوكرانية.
هذه الأخيرة تشكل نقطة انعطاف في العلاقات الأوروبية الأطلسية، خاصة وأن فكرة تكوين جيش أوروبي موحد ليست وليدة اليوم، بل لها امتدادت ومحاولات سابقة. خاصة في ظل التنافس الفرنسي الأمريكي في القارة الأفريقية معقل النفوذ الفرنسي.
جيش أوروبي
دعت المستشارة الألمانية السابقة انجيلا ميركل إلى تكوين جيش أوروبي موحد، وقالت: “ينبغي أن نضع رؤية تجعلنا ننشئ جيشا أوروبيا حقيقيا يوما ما مذكرة بدروس الحرب العالمية الأولى والانقسامات التي أدت إلى ذلك الصراع”. وهو تصريح خلال كلمة ألقتها امام البرلمان الأوروبي شهر نوفمبر 2018.
لكنها أكدت في المقابل على أنه لن يكون ضد حلف الناتو، لكن يمكن “ان يعملا بشكل متكامل.
وقبل ذلك بأسبوع، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الأمر نفسه. لكن قصد الولايات المتحدة الأمريكية أيضا إلى جانب روسيا والصين، وقال في تصريح له يوم 6 نوفمبر 2018: ” علينا أن نحمي أنفسنا تجاه الصين وروسيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية”.
وبرر دعوته بانسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من اتفاق الحد من انتشار السلاح النووي الموقع في ثمانيات القرن الماضي.
الفكرة ليست وليدة اللحظة أو نتاج ما يحدث في أوكرانيا، لكنها تعود إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما وقعت بريطانيا فرنسا بلجيكا هولندا ولوكسمبورغ اتفاقية أمن جماعي عام 1948. لكن أمريكا كانت هناك وشكلت حلف الأطلسي باعتبارها كانت الوحيدة القادرة على مواجهة حلف قوي نشأ شرق أوروبا ” حلف وارسو” .
وفي 2007، وقعت اتفاقية أوروبية بتشكيل الكتيبة الوروبية المسلحة الأولى التي ستتولى تامين أوروبا. وبقيت حبرا على ورق.
وفي عهدة ماكرون، شكل قوة التدخل الأول، تكون نواة اول وحدة عسكرية قوامها 5000 آلاف عسكري، تدعمها سفن وطائرات حربية ودبابات ومدرعات.
هذه الخطة وافقت عليها في 2020، 13 دولة أوروبية في مقدمتها ألمانيا، من اجل تخصيص ميزانية عسكرية، لحماية الاتحاد الأوروبي، من الصين وروسيا على وجه التحديد، لكن من أمريكا أيضا.
مؤشر
وقال رئيس الوزراء الأسبق نيكولاي أزاروف، على صفحته فيسبوك: “الناتو كان يخطط لشن حرب عالمية ثالثة باستخدام الأسلحة النووية ضد روسيا وتم إعطاء الدور الرئيسي في هذا إلى النخبة الحاكمة الحالية التي تسيطر عليها أمريكا في أوكرانيا والقوميين”.
ونقلت وكالة سبوتنيك عن الصفحة قوله: ” “منذ ديسمبر 2021، وروسيا تتلقى معلومات حول خطط الناتو لنشر 4 ألوية عسكرية (2 برية، 1 بحرية، 1 جوية) على أراضي أوكرانيا. علاوة على ذلك، لواء جوي لديه القدرة على حمل رؤوس حربية نووية.
أراد الناتو الموافقة على هذا النشر للقوات في صيف عام 2022 في اجتماع لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. علاوة على ذلك، على الأرجح بحلول نهاية العام، سيكونون قد أثاروا صراعًا وشنوا عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد روسيا باستخدام الأسلحة النووية”
خلفيات
لم تكن العلاقات بين أوروبا وأمريكا مثالية إلى هذا الحد، لكن المصالح المشتركة فرضت بعض التجانس، الذي كانت تشوبه توترات من حين لآخر. خاصة بين فرنسا والو م أ.
في 1966، انسحبت فرنسا من القيادة الموحدة لحلف الناتو، بسبب مواقف أمريكية مؤيدة لموجة الاستقلال في الدول الأفريقية، أي المستعمرات الفرنسية في محاولة استقطابهم ومنعهم من الالتحاق بالمعسكر الشيوعي.
وطالبت فرنسا أن يكون التحالف شاملا. كما طالبت أيضا أن تتمتع بالصلاحيات التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في حلف الأطلسي.
كان ذلك قبل أن تطلب فرنسا إجلاء القوات الأمريكية والكندية من الأراضي الفرنسية. أخليت إثرها 29 قاعدة عسكرية ورحل 100 ألف جندي، كما نقل مركز قيادة الحلف من باريس إلى بروكسل ببلجيكا.
لكن عادت فرنسا وأكدت أن الرحيل من الحلف ليس نهائيا، ويمكن أن تقدم المساعدة في حال نشبت حرب بين الناتو، وحلف وارسو.
ولم تعد فرنسا إلى حلف الناتو إلا مع تولي الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والتحقت مجددا بالقيادة الموحدة للناتو شهر أفريل 2009. بعد غياب دام 43 عاما.
في أفريقيا..
وقوف فرنسا خلف كل دعوة لإنشاء جيش أوروبي موحد لم يكن من العدم، فهي رغم الانتماء إلى حلف عسكري واحد رفقة الولايات المتحدة الأمريكية، لكن مصالحهما الاقتصادية والتوسعية “بمعنى توسيع النفوذ”.
ففي أفريقيا المستعمرة السابقة لفرنسا وعدد من الدول الأوروبية، دخلت الولايات المتحدة الأمريكية على خط التنافس. حيث سعت إلى تحقيق اهداف سياستها الأفريقية من خلال:
- سياسيا تحجيم النّفوذ الفرنسي في أفريقيا، وتحقيق وجود أمريكي في القارة، باعتبارها قوة عظمى، وإقامة نظم موالية لها، تقدم لها الدّعم السّياسي والاقتصادي.
- اقتصاديا:
أ. تأمين الحاجة الطّاقوية من النّفط للولايات المتحدّة الأمريكية الّتي تقدر بـ25 بالمائة من غرب ووسط أفريقيا.
ب.تنامي التّرابط الاقتصادي بين الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من المنظمات الإقليمية الاقتصادية، على غرار المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا “إكواس” و”مجموعة تنمية الجنوب الأفريقي “سادك”، حيث وقعت اتفاقا سنة 1998 مع وزراء مالية المجموعة لتطوير العلاقات التّجارية مع دول المنطقة.
ج. موارد هامة من المعادن: تضمّ أفريقيا نحو 78 بالمائة من مناجم العالم من مواد الكروم و59 بالمائة من البلاتين.
- عسكريا:
أ. تنفيذ مشروع قوات حفظ السّلام في أفريقيا: إذ وبعد فشل كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في التّدخل في العسكري في وسط أفريقيا والصّومال على التّوالي، رأت الولايات المتحدة الأمريكية –باعتبارها القوة العظمى الوحيدة-بدءا من عام 1996، ضرورة إنشاء قوة عسكرية أفريقية قوامها 10 آلاف جندي أفريقي، تقوم بالتّدخل السّريع في حال الأزمات، بسبب استفحال حركات التّمرد والإبادة الجماعية والحروب الأهلية غداة انهيار الاتحاد السّوفييتي، تتوّلى تمويلها بالتّعاون مع أوروبا. غير أنّ فرنسا عارضت المشروع بشدّة باعتباره مساسا بمنطقة نفوذها.
ب. التّحالف الاستراتيجي بين فرنسا والدّول الأفريقية ذات الثّقل السّياسي في القارة، مقابل معونات عسكرية. وكان نتاج ذلك ردّ فعل فرنسي تمثّل في إعلان نية تكوين جيش أوروبي مستقل لحماية القارة الأوروبية من الخصم الصّيني والرّوسي والأمريكي. كما أشرنا سالفا.
خيانة “يوكوس”
تلقت فرنسا ضربة موجعة بعد أن سحبت منها الولايات المتحدة الأمريكية صفقة الغواصات التي أبرمتها مع أستراليا، وتكبدت بذلك خسائر كبيرة، زادت من آثار جائحة كورونا على الاقتصاد الفرنسي.
فرنسا قد لن تغفر لأمريكا هذه الطعنة، وقد تفكر جديا في إنشاء جيش أوروبي موحد تكون نواته فرنسا وألمانيا، بعد أن تنجلي الحرب في أوكرانيا، على غرار نواة ما أصبح يعرف بالاتحاد الأوروبي، الذي بدأ منتصف القرن العشرين بين فرنسا وألمانيا.
وإذا عدنا إلى ما قاله رئيس الوزراء الأوكراني الأسبق، يمكن أن نفهم ان الولايات المتحدة الأمريكية، بصفتها قائد حلف الناتو الفعلي، أرادت إشعال حرب جديدة في اوراسيا، بأيدي أوروبية وفي أراض أوروبية.
هدف تلك الحرب هو إبقاء أوروبا تحت الهيمنة الأمريكية ومنه بقاء حلف الناتو من جهة، ومن جهة أخرى تنشيط الاقتصاد الأمريكي الذي يمر بفترة سيئة جدا. من خلال تحريك المجمع الصناعي العسكري وبالتالي جني أموال طائلة تعوض الخسائر التي تكبدها بسبب جائحة كورونا ومشاكل داخلية أخرى.