من مالي وبوركينافاسو إلى أوكرانيا وكازاخستان، تايوان كوبا وفنزويلا، لا تتوقف القوى الكبرى المتناحرة على مناطق النفوذ والثروة وعلى المناطق الاستراتيجية عن التنازع.
بزوغ قوى تُريد مكانا لها في بيئة دولية متحولة، وأخرى بدأت في الأفول وتصارع من أجل الحفاظ على مكانتها، تسبب في تداخل مناطق النفوذ للقوى الزاحفة والمتولية.
توتر
لم تبق المواجهات بين الغرب وروسيا محصورة في أوكرانيا، على الحدود الروسية. بل تعدتها إلى مناطق خارج أوراسيا، وبالتحديد في أفريقيا، حيث تزاحم روسيا القوى الغربية التقليدية في المنطقة.
وقد أبدت فرنسا موقفا متسقا مع حلف الناتو فيما تعلق بأزمة أوكرانيا. حيث حركت قواتها في رومانيا تحسبا لأي “اجتياح” روسي للأراضي الأوكرانية.
ورغم هذا الاتساق، فضلت فرنسا، التي تعيش على وقع التحضير لرئاسيات 2022، وضع بصمة خاصة بها، عمد فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فتح قناة حوار مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
وقد يشير هذا الموقف إلى محاولة فرنسا ذر الرماد في عيون الروس، خاصة وأن الطرفان يتواجهان بشدة على حلبة أخرى في أفريقيا وراء الصحراء. في كل من مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينافاسو.
بداية النهاية
أقدمت السلطات في مالي على طرد السفير الفرنسي، تنديدا بالتدخل الفرنسي في الشؤون المالية، ومحاولة فرض تاريخ لإجراء الانتخابات الرئاسية في حين يعتبر المجلس العسكري في مالي أن الظروف غير مواتية لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
وأعلن المجلس العسكري تمديد الفترة الانتقالية بين 6 أشهر و5 سنوات، حتى يتسنى تنظيم انتخابات رئاسية تسفر عن رئيس منتخب يخدم مصلحة الشعب المالي. وهو ما لم يكن ممكنا في فترة ثمانية أشهر من تولي أسيمي غويتا الحكم بعد انقلاب 24 ماي 2021 على الرئيس المالي باه نداو، الذي تولى الحكم هو الاخر عقب انقلاب على عسكري على الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا شهر أوت 2020.
ولعل إفشال المجلس العسكري الخطة الفرنسية للاستيلاء مجددا على السلطة في مالي، هو ما دفع هذه الأخيرة لاستخدام مجموعة إيكواس التي فرضت عقوبات على مالي وصفت بالخطيرة، بهدف الضغط على المجلس العسكري للرضوخ وتنظيم انتخابات يوم 27 فيفري.
وطرد باماكو السفير الفرنسي. وطلبت من فرنسا مراجعة اتفاقيات الدفاع المشترك التي تربط البلدين منذ استقلال مالي. و
قالت الخارجية المالية إن هدف المراجعة هو معرفة ما إذا كانت تلك الاتفاقيات وغيرها لا تمس بمصالح مالي وشعبها، وأنها لا تخترق الدستور المالي، أم أنه يجب إعادة النظر فيها، بما يسمح للدولة في مالي من تسيير شؤونها بما يستجيب للمصلحة العليا لها..
بوركينافاسو انقلاب آخر
في 24 جانفي 2022، استيقظت بوركينافاسو على ثامن انقلاب منذ نيل الاستقلال. قاد الانقلاب العقيد بول هنري سانداوغو داميبا، وأنهى حكم الرئيس البوركينابي روش مارك كريستيان كابوري.
وبوركينافاسو هي إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة.
قد لا تختلف أسباب الانقلاب في هذا البلد عن الانقلاب في مالي قبل أشهر، ظاهريا. حيث ارتفعت العمليات الإرهابية ضد المدنيين والجيش البوركينابي منذ إطلاق عمليات “برخان” الفرنسية التي يبدو ظاهرها مكافحة الإرهاب، ناهيك عن غياب التنمية وانتشار الفقر رغم غنى هذه المستعمرة الفرنسية السابقة.
لكن بتتبع مجريات السنوات الأخيرة يلاحظ أن الرئيس المخلوع مارك كريستيان كابوري، كانت له ميول نحو الشرق وبالضبط نحو روسيا. حيث التقى السفير البوركينابي لدى روسيا أنطوان سومدا وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف العام 2018.
وفي جويلية 2019 زار هذا الأخير بوركينا فاسو والتقى الرئيس كابوري، وتباحثا القضايا المشتركة وأهمها مكافحة الإرهاب والتطرف في منطقة الساحل والصحراء.
وفي العام نفسه شارك الرئيس كابوري في القمة الروسية الأفريقية في سوتشي، ودعا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المشاركة في “الشراكة الدولية من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل”، وفي قمة المنظمة الإقليمية لتجمع دول الساحل (س ص) لمواجهة الإرهاب.
هذه التحركات أقلقت فرنسا التي تلقت ضربة روسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، عندما ساهمت موسكو في تنظيم انتخابات رئاسية أزاحت بها الموالين لفرنسا ونصبت رئيسا مواليا لها. وتكون رتبت لهذا الانقلاب لمنع تكرار سيناريو مالي وأفريقيا الوسطى.
تضارب مصالح
وتتهم باريس موسكو بالتدخل في شؤون دول مستعمراتها السابقة. والتسبب في توتر العلاقة بين باريس وباماكو. وآخرها كان اتهام مجموعة “فاغنر” الروسية بنهب ثروات مالي. بعد أن وقعت روسيا ومالي اتفاق تعاون عسكري.
ونفت الخارجية المالية وجود قوات فاغنر على أراضيها. بينما أرجع وزير خارجية مالي عبد الله ديوب التوتر بين باريس وباماكو إلى مساس المجلس العسكري بمصالح فرنسا في مالي. وإحباط خطة الانتخابات في 27 فيفري 2022 من أجل إعادة الوجوه نفسها إلى السلطة.
وبالنظر إلى ما سبق يتضح أن الخلافات الفرنسية الروسية على المناطق الغنية بالثروات، جعلت كل طرف يعمد إلى ابتزاز خصمه لثنيه عن التوسع في مناطق النفوذ. وبالتالي الحفاظ على ميزان القوة القائم في ظرف دولي يتسم بتحول مراكز القوة.
وتخشى فرنسا على نفسها انتهاء امبراطوريتها في أفريقيا، التي جعلت منها قوة عظمى ثم قوة كبرى. لكن يبدو أن دخول قوى أخرى على الخط يعجل بنهايتها في الدول لأفريقية الـ 14 التي تحتفظ باحتياطاتها المالية وتسك عملتها في باريس، والبداية كانت من مالي على ما يبدو.
فرنسا ليست بعيدة عن حرب أهلية؟
على الصعيد الداخلي الفرنسي، تشهد فرنسا أسوأ أيامها، حسب إصدار للجنرال ” pierre de villiers ” بعنوان ” لسنا بعيدين عن حرب أهلية” ” on est pas loin de la guerre civile”. بسبب تنامي العنصرية وكره الأجانب، والتحريض ضد الإسلام، والكثير من الجو المشحون بالعنف.
وتتبنى الحكومة الفرنسية تحت قيادة الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون ردودا سياسية غير مقبولة على مطالب اجتماعية. إلى جانب التراجع الفرنسي الاستراتيجي على الساحة الدولية والبداية من مستعمراتها السابقة، كما ذكرنا، وهو ما قد يقود الى مواجهات بين أبناء الشعب الواحد.