بعد انكفائها وانشغالها بشؤونها الداخلية قرابة عقدين من الزمن، تعود روسيا لتضطلع بمهامها كقوة صاعدة، في عالم لم تبق فيه الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى وحيدة.
سعت الفدرالية الروسية إلى التغلغل في مناطق كانت تعتبر إما تابعة لها في الفترة السوفييتية أو تربطها علاقات قوية بتلك الدول، منها دول أفريقية ظلت، إلى الآن، مناطق نفوذ فرنسية، لكن هذا المعطى آخذ في التغير بالنظر إلى انتفاضة شعوب تلك الدول ضد التواجد الفرنسي.
استرجاع أسواق
بعد نجاح تدخلها العسكري في سوريا، امتد التواجد الروسي إلى أفريقيا، بالتواجد في ليبيا التي افلتتها لصالح الغرب عندما تدخل حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي، تلاه تدخل في جمهورية أفريقيا الوسطى التي عاثت الحرب فيها فسادا ردحا من الزمن، وصولا إلى عقد قمة روسية أفريقية، حضرها 43 من رؤساء الدول الأفريقية، إلى جانب منظمات إقليمية أفريقية ونحو 10 آلاف رجل أعمال أفريقي.
هي قمة أرادت روسيا من وراها العودة إلى الساحة الدولية والأفريقية خصوصا كفاعل بديل عن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وإحياء للمجد السوفيتي لكن بطعم اقتصادي.
لكن لابد من الإشارة إلى أن هذا الفضاء الذي تسعى روسيا للدخول اليه يشهد تنافسا بين القوى التقليدية من جهة والقوى الصاعد من جهة أخرى على غرار الصين الهند البرازيل وتركيا.
الاقتصاد في معادلة روسيا-أفريقيا
لا تتمتع روسيا بثقل اقتصادي كبير في أفريقيا حيث لا تتجاوز التبادلات التجارية بينها وبين دول جنوب الصحراء خمس مليارات دولار إلى غاية الثلاثي الأول من العام 2018 حسب إحصائيات رسمية، و17 مليار دولار إذا احتسبنا دول شمال أفريقيا.
بينما تقدر قيمة المبادلات التجارية بين الاتحاد الأوروبي 275 وأفريقيا مليار دولار لعام 2017، حسب وكالة الإعلام الاقتصادي الأفريقية ECOFIN. و200 مليون دولار مع الصين و70 مليار دولار مع الهند و53 مليار دولار مع الو م أ، و20 مليار دولار مع تركيا. وعليه تبقى روسيا بعيدة عن آخر متبادل تجاري مع أفريقيا.
لكن حسب مهتمين بالشأن الروسي، هدف روسيا من العودة إلى أفريقيا ليس متعلقا باعتبارات السياسة الخارجية بقدر ما هو مرتبط برؤية حول بعث تعاملات في منطقة لا تخضع للعقوبات الاقتصادية الغربية، وتعتبر روسيا نفسها متأخرة عنه.
تعاون عسكري
على الصعيد العسكري، تشير أرقام لمعهد ستوكهولم الدولي للدراسات السلام، أن روسيا تصدر نحو 13 بالمائة فقط من السلاح إلى أفريقيا، 78 بالمائة منها موجهة إلى الجزائر. بينما تراجعت صادراتها من السلاح إلى القارة بنسبة 32 بالمائة بين 2013 /2017 مقارنة بالفترة 2008/2012.
لكن هذه الأرقام لا تأخذ بعين الاعتبار بعض عقود الصيانة للسلاح السوفيتي في الدول الأفريقية. ولعل هذا التراجع يفسر تدخلها في كل من ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى من خلال تقديم خدمات عسكرية وأمنية لهذه الدول، مقابل امتيازات اقتصادية.
وفي إطار التعاون العسكري قام وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بزيارات إلى عدد من الدول الأفريقية جنوب الصحراء (حيث تعتبر روسيا تواجدها ضعيفا هناك): أنغولا، ناميبيا الموزمبيق زيمبابوي وإثيوبيا بين 5 و9 مارس 2018 (وهي دول ربطتها علاقات مع روسيا في الفترة السوفيتية باعتبارها زبونا للسلاح الروسي وتكوين النخب العسكرية).
وهدفت الزيارة إلى ترقية ثلاث دعائم في العلاقة بين روسيا وهذه الدول تمثلت في: تجديد وترقية التعاون العسكري والأمني، فتح الاقتصادات الوطنية أمام الاستثمارات الروسية، بمعنى أن روسيا تريد أن تضمن حصة من الأسواق والموارد الطبيعية الأفريقية، وتقديم نفسها على انها فاعل مؤثر في مكافحة الإرهاب.
صفقات أسلحة..
من جهة أخرى تعقد روسيا اتفاقات بيع الأسلحة مع عدد من الدول الأفريقية على غرار انغولا، والموزمبيق كما ترافق القوات المحلية لها في مواجهة حركة “الشباب” إلى جانب التعاون الاستخباراتي.
وفي زيمبابوي وإضافة إلى العلاقات التاريخية خلال الحقبة السوفييتية، الماس والمعادن النفيسة التي يزخر بها باطنها يسيل لعاب الروس.
وما يجذب الروس في إثيوبيا هو الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القرن الأفريقي وجيبوتي، وهي ترى فيها نقطة رسو لمراقبة ما يحدث في القرن الأفريقي الذي يزدحم بالقواعد العسكرية لعدد من الدول ( الو م أ، فرنسا، اليابان ..) رغم أن قدراتها على التأثير ضئيلة جدا.
قمة اقتصادية
عقدت القمة الروسية الأفريقية في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود يوم 23 أكتوبر 2019، حضرها 43 رئيس دولة أفريقية، و10 آلاف ممثل عن جميع قطاعات الاقتصاد أفريقي، إلى جانب منظمات إقليمية سياسية واقتصادية.
وأعلنت القمة في بيانها الختامي، أن المجتمعين اتفقوا على مواجهة الاملاءات السياسية وابتزاز العملات عند تنفيذ السياسة الدولية والتعاون الاقتصادي، وإحباط رغبة بعض الدول في أن تمنح نفسها حق الاستئثار في تحديد الجدوى والمعايير المسموح بها للتفاعل المشروع بين البلدان الأخرى” ورفض السياسات والقرارات الأحادية التي تفرضها الدول الغربية والتي تقوض أسس التعاون وعمل مجلس الأمن.
ورفض التدخل في شؤون الدول الأخرى وإسقاط الحكومات الشرعية، وسياسة ازدواجية المعايير، ومنع التلاعب بمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية بهدف الضغط على الدول الأخرى، والتنافس بشكل غير عادل.
يتضح من خلال هذا البيان أن روسيا تنتقد بطريقة مباشرة النهج الغربي خلال فترة الأحادية القطبية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، معلنة بداية نهاية تلك الفترة.
دبلوماسية خاصة
تريد روسيا أن تؤدي دور المحاور المحترم، أو حتى العضو المراقب داخل المنظمات الإقليمية للقارة الأفريقية، واتضح هذا التوجه من خلال عقد القمة الروسية الأفريقية التي دعيت إليها منظمات أفريقية على غرار المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، مجموعة شرق أفريقيا واتحاد المغرب العربي واتحاد غرب أفريقيا الاقتصادي والنقدي وغيرها.
وبصفتها عضوا في مجموعة البريكس (البرازيل، روسيا، الهند الصين وجنوب أفريقيا)، ترى روسيا نفسها قائدا وملهما لمسار بديل لأفريقيا عن المسار التقليدي للقوى الاستعمارية السابقة، حيث يمكن لدول أفريقية أخرى الانضمام إلى المجموعة.
وأرسلت بالتزامن مع هذا مستشارين سياسيين إلى عدد من الدول الأفريقية مثل الكونغو الديمقراطي، السودان ومدغشقر، ظاهريا بهدف تقديم خبراتهم في رسم السياسات العامة، لكن الهدف المضمر هو تحسين مكانتها في تلك الدول، بمعنى أنها تقدم خدماتها بمقابل.
وقد تكون روسيا مرحبا بها من قادة الدول الأفريقية، اذ يتطلعون لأن تحميهم من انقلابات ما يسمى “الثورات الملونة”، خاصة بعد وقوفها إلى جانب النظام في سوريا ومنع سقوطه بتدخلها العسكري بداية من 2015، والذي قلب موازين القوى ومنع الغرب من تنفيذ مخططه.
الامن مقابل اليورانيوم
تعتبر أفريقيا الوسطى المثال الأوضح على هذه العلاقة، ففي ديسمبر 2017 رفعت الأمم المتحدة عن روسيا حظر تسليح وتكوين وحدات أفريقيا الوسطى، ثم ساعدتها روسيا في تأمين الانتخابات الرئاسية في 27 ديسمبر 2020، رغم حالة الحرب الداخلية والحصار الذي تفرضه المعارضة على العاصمة بانغي.
وأسفرت عن فوز فوستين أرشانغ تواديرا بولاية ثانية، بعد إبعاد الرئيس الأسبق فرانسوا بوزيزي الموالي لفرنسا بحكم صادر عن المحكمة الدستورية بسبب ارتكابه جرائم حرب، وإقصاء مترشحين آخرين ينتمي معظمهم إلى الفصائل المعارضة التي تدعمها هي الأخرى فرنسا.
ورغم الضبابية والاضطراب الأمني الشديد في هذه الجمهورية الصغيرة إلا أن روسيا اقتنصت عبر شركة روساتوم” Rosatom عقدا تفضيليا للتنقيب في مناجم اليورانيوم في منطقة “باكوما”، وما يعنيه اليورانيوم الأفريقي بالنسبة لفرنسا التي تعتمد عليه في توليد الطاقة الكهربائية، إلى جانب الاستخدام للأغراض العسكرية. وهذا يعني أن الصراع المحلي له امتدادات خارجية حول التواجد العسكري واستغلال الموارد.
ماليون يطالبون بحماية روسية
أما في مالي التي تدور رحى الحرب على أراضيها، فقد أبرمت روسيا صفقات توريد السلاح إليها، وهذا ما يغضب فرنسا التي تستشعر خطر استيلاء روسيا على مناطق نفوذها خاصة جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، حيث فشلت فرنسا في إرساء الأمن بينما مكن التدخل الروسي من إجراء انتخابات رئاسية رغم الظروف الأمنية المضطربة هناك.
وقد تستنجد دول أفريقية قابعة تحت الهيمنة الفرنسية بروسيا، باعتبارها بديلا يدحر التدخل الفرنسي المبني على إطالة عمر الصراعات الداخلية من أجل ضمان استمرار مصالحها وفق منطقها الدائم “فرق تسد”.
اهتمام أكاديمي
وكثفت مراكز البحث الروسية نتاجها الأكاديمي حول أفريقيا واهميتها بالنسبة لروسيا، وتراجعت النظرة الروسية المبنية على تقسيم ثنائي ” شمال أفريقيا باعتباره الجزء الأكثر فائدة بالنسبة لها وأفريقيا جنوب الصحراء غير المهمة. وعملت على وإعادة بعث التبادلات الثقافية والجامعية، وترقية التعاون العلمي والتقني.
.. وإعلامي
يتجلى التنافس في القارة أيضا من خلال وسائل الإعلام، وعليه خصصت روسيا جانبا منه لأفريقيا من خلال موقعي “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”، الذين يحظيان بزيارات كثيرة للقراء الأفارقة، مع الحرص على توفير المعلومة باللغتين الفرنسية والانجليزية التي يتحدثها معظمهم باعتبارها لغة رسمية في هذا البلد أو ذاك، إلى جانب العربية.، بالتركيز على انتقاد سياسات المستعمر السابق وما جره على أفريقيا من تخلف.
وأشارت دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية أن روسيا تستثمر في محرك البحث “غوغل” حتى تظهر نتائج مواقع الأخبار الروسية حول أفريقيا في مقدمة محركات البحث المرتبطة بـ”غوغل”، لضمان نشر مضمون تلك المواقع على أكبر قدر ممكن من وسائل الاعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي في الدول الأفريقية.