قبل حوالي ثلاثة عقود تم الاعلان الرسمي عن تفكك الاتحاد السوفييتي، وتوهم بعض الباحثين أن عرش القطبية الدولية أصبح ملكا للولايات المتحدة نتيجة سيطرة فكرة اللحظة الراهنة والانفصال عن الاتجاه التاريخي للظاهرة الدولية.
لكن غبار التفكك السوفييتي لم يُخْفِ اتجاها آخر أطل عليه مبكرا بول كينيدي ومدرسته الاستراتيجية (عام 1987) والخاصة ببذور التراجع الأمريكي، التي أصبحت فكرة مستقرة في الدراسات المستقبلية الامريكية، كما عبر عنها جون غالتنغ وريتشارد ليكمان وجوليا شوبيرت، ودراسة جيرالد سيلينتي ودراسة ثوماس تشيتوم وموريس بيرمان، الخ.
بناء على الاتجاهين السابقين، فإن ازمة اوكرانيا الحالية هي نتيجة لإمبراطورية سوفييتية تفككت وتخشى ان يتواصل التفكك داخل “القلب” منها –أي روسيا- والتي يشكل الروس فيها 80% من السكان، بينما هناك 20% يتوزعون على أكثر من 120 أقلية بعضها لها اقليمها ولغتها الخاصة مثل التتار والباشكير والشيشان والأرمن.. الخ.
وقد يشكل زحف حلف الناتو الى الجوار الجغرافي المباشر لروسيا عاملا مساعدا على تأجيج هذه الثقافات الفرعية، الى جانب تضييق المجال الحيوي للدولة الروسية وحرمانها من أي طموحات جيو-استراتيجية في فضاء هذا المجال الحيوي، الذي يمتد في البر الآسيوي من ناحية ويسعى عبر البحر الاسود للوصول للمياه الدافئة بعيدا عن العراقيل، وقد كان ذلك نهجا روسيا منذ بطرس الأكبر من ناحية ثانية.
أما الاتجاه الثاني وهو الرغبة الامريكية في العمل على إحياء متغيرات الاحتفاظ بالمكانة الدولية لتكييف عوامل التراجع ولجم آثارها، ولعل التنامي الصيني أصبح مقلقا أكثر للولايات المتحدة على مكانتها الدولية.
وقد اشرنا في دراسة سابقة لنا عن التراجع الامريكي إلى أنه من بين 20 مؤشرا من مؤشرات المكانة الدولية، تفوقت الولايات المتحدة في 54.3% مقابل 45.7% للصين، وتدرك الولايات المتحدة أن أوروبا تشكل متغيرا هاما في الموازين الدولية، لذا فإنها تسعى لجعل أوروبا اكثر ارتباطا بالولايات المتحدة من خلال العمل على تكييف وتعديل سياسات الناتو من ناحية، لتصبح الولايات المتحدة واوروبا اكثر ترابطا في توجهاتهما الاستراتيجية.
لكن اوروبا تستشعر قدرا من المحاذير في هذا الاتجاه أبرزها أن المعركة الكبرى -إنْ وقعت- ستكون أوروبا مسرحها، كما ان تجارتها وموارد الطاقة لها ستصاب بخسارة كبيرة، وهو ما يفسر التثاؤب الألماني والفرنسي بخصوص فكرة انضمام أوكرانيا الى الناتو.
وتكشف الوثائق الاوروبية المعلنة منذ اتفاقية ماستريخت عن نزوع أوروبي لاستقلالية أكبر عن المشروعات الامريكية، في بعض جوانب الحياة الدولية ومنها آليات العلاقة مع كل من روسيا والصين.
ذلك يعني ان جوهر التناحر الحالي هو بين روسيا، التي تسعى للتحرر من التطويق الذي يسعى الناتو لاستكماله حولها وحرمانها من الانخراط في السوق الاوروبية، وبين الولايات المتحدة التي تريد أن تعوض بعدها الجغرافي بالاتكاء على الجغرافية الأوروبية لاستكمال التطويق لروسيا والذي لم ينجح حتى الآن.
لكن العودة لمسار الأحداث التاريخية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وتولي بوتين السلطة يشير الى انه وضع فكرة تفكيك أي زحف اطلسي او امريكي للجوار الروسي في رأس قائمة اولوياته، وانه يجب صد ذلك بكل الوسائل، وهو ما تجلى في الآتي:
أ- إفشال محاولة جر جورجيا للناتو وتقسيمها، ثم ردع أذربيجان عن نفس التوجه، بعد رؤية عواقب السياسة الجورجية (2008)، وهو ما شكل هاجسا امنيا لأوكرانيا، التي راودتها الفكرة في نفس الفترة نحو العضوية الاطلسية.
ب- إغلاق الولايات المتحدة لقاعدتها العسكرية في مناس (قرغيزيا) عام 2014 بعد حوالي 13 سنة من افتتاحها، وكان للروس دور في الضغط بهذا الاتجاه.
ت- منذ اتفاقية الشراكة من اجل السلام بين كازخستان والناتو 1999، وروسيا تعمل على تعزيز نفوذها في هذه الدولة، الى ان تم ضمها مع مجموعة اخرى من الدول لمنظمة معاهدة الامن الجماعي بقيادة روسيا عام 2002 والذي يعني طي صفحة اتفاقيات الشراكة من اجل السلام.
دلالات المواجهة بين الطرفين
1- يبدو ان العقل الامريكي استمرأ التدخل العسكري بمستوياته المختلفة حول روسيا وفي العالم، ويبدو ان الامريكيين اعتقدوا ان التلكؤ الروسي في الرد على غزو العراق والصومال وافغانستان ويوغسلافيا.. الخ سيتواصل مع التوسع في الجوار الروسي القريب، لكن هذا التقدير كان على غير هدى.
وتشير الأدبيات الفكرية الروسية (مدرسة دوغين) وتوجهات بوتين نفسه والنخبة العسكرية الروسية، الى ان الجوار القريب يجب ان يكون محرما على الناتو، وهو ما تؤكده وثائق الرئاسة الروسية من ناحية وأزمة الصواريخ بين الطرفين في الفترة 1982-1983 من ناحية ثانية.
2- لكن الاستجابة لاستراتيجية التحريم الروسية هذه، قد تجعل من نجاحها نموذجا يقتدي به الصينيون في موضوع تايوان، والذي لا يقل حساسية للصين عن حساسية الجوار القريب الروسي لموسكو، ولا شك أن هذه المعركة قادمة بين امريكا والصين، لكن ادارتها قد لا تكون بالضرورة مواجهة عسكرية مباشرة بين امريكا والصين.
3- عززت روسيا من نهجها القائم على تنظيف جوارها القريب من الناتو عام 2014 عند استعادة روسيا لجزيرة القرم ومساندة نزعة الروس المقيمين في أوكرانيا (دونباس بخاصة) للانفصال، ومعلوم ان المسافة بين الحدود الاوكرانية مع روسيا وبين موسكو –العاصمة الروسية – هي حوالي 490 كيلو متر، وهي مسافة من القصر بمكان لا تتهاون معها روسيا بوجود “ناتو” يطل على شرفات العاصمة الروسية في حال انضمام اوكرانيا للناتو، على غرار عدم القبول الامريكي للصواريخ السوفييتية ابان ازمة الصواريخ الكوبية في مطالع ستينات القرن الماضي.
4- اما بقية الجمهوريات الاكثر اهمية من بقايا الاتحاد السوفييتي فهي: مولدافيا وبيلوروسيا، واوكرانيا. وقد وقعت بيلوروسيا اتفاقية 1999 مع روسيا بينما تبدو مولدافيا اقرب للنزوع نحو الاتحاد الاوروبي اكثر من النزوع للناتو، وهو ما يتضح في مقاومتها لعضوية الاتحاد الاقتصادي الاورواسي الذي تقوده روسيا.
5- لكن الناتو حقق بعض النجاح في بعض المناطق مثل انشاء جمهورية كوسوفو رغم المعارضة الروسية ثم انضمام مونتينيغرو وشمال مقدونيا للناتو 2017 و2020 ناهيك عن انضمام اوروبا الشرقية تباعا.
المستقبل
من المؤكد ان القدرة الاقتصادية لقوى الناتو اكثر تأهيلا لتحمل اعباء المواجهة في حال وقوعها، وقد تم استثمار ذلك في فترة التوسع الاخطر للناتو خلال الفترة 1999-2004، وكانت روسيا في وضع اقتصادي سيء للغاية
لكن روسيا بدأت تستعيد عافيتها تدريجيا لاسيما مع تزايد اسعار المواد الخام التي هي المصدر الأكبر للاقتصاد الروسي، كما ان اعتماد اوروبا على مصادر الطاقة الروسية (نفط وغاز) بشكل معتبر (حوالي 40% لألمانيا مثلا) يجعل المواجهة مكلفة جدا لأوروبا، بخاصة انها ستكون ميدان المعركة، كما ان مشروعات تمديد الغاز الروسي الأخرى (السيل الشمالي 2) تمثل امرا حيويا لروسيا واوروبا ، وهو ما تحاول الولايات المتحدة لجمه او تعطيله.
إن الحساب العقلاني لدول عقلانية يشير الى ان كلا منهما سيعمل على توظيف نظرية “المعادل الاخلاقي للحرب”، أي ادارة النزاع من خلال مواجهات دون المواجهة العسكرية المباشرة بين الناتو وروسيا، وقد يأخذ الامر طابع الضغوط السياسية والاقتصادية والعقوبات الاقتصادية وربما بعض التحركات العسكرية ذات المستوى المنخفض او الهجمات السبرانية، وقد يكون المخرج هو تأجيل اوكرانيا تقديم طلب العضوية للناتو من ناحية ليطويه النسيان لاحقا، مقابل التخفيف التدريجي للتواجد العسكري الروسي في شرق اوكرانيا وتحديدا في اقليمي دونيتسك ولوهانسك. والعمل على بحث الموضوع على طاولة المفاوضات لا في ميدان المعارك من ناحية ثانية.
إن أوروبا تدرك الآثار الاقتصادية الهائلة والخسائر البشرية والبنية التحتية وموجات النزوح والارباك الاجتماعي التي ستشهدها القارة إذا اشتعلت الحرب، وهو امر من المتعذر اقناع القادة الاوروبيين بالإقدام عليه، وسيكون العمل على اعطاء ” المعادل الاخلاقي للحرب” الفرصة تلو الأخرى هو الحل الانسب… واما التهويل الأمريكي-البريطاني عن قرب المواجهة واستعداد روسيا لغزو أوكرانيا، فيبدو انه حرب اعلامية للضغط على جهات مختلفة، ومنها اوكرانيا التي اشار رئيسها اكثر من مرة الى الآثار الاقتصادية السيئة للغاية لسياسات التهويل الامريكي… لكن المؤكد أن روسيا لن تقبل عضوية أوكرانيا في الناتو باي شكل من الاشكال، والا فإنها الحرب التي ستعيد لأوروبا مشاهد الحرب العالمية الثانية… وهو أمر لا يبدو العقل الاوروبي مقتنعا به الى حد كبير… لكن سوء التقدير ظاهرة تاريخية تتكرر بين الحين والآخر.