لم تستطع الحكومات المتعاقبة في ليبيا التحكم في تفاقم ظاهرة “الحراقة”، بسبب تعدد الفواعل وغياب سلطة قادرة على بسط نفوذها باعتبار الظاهرة عابرة للحدود.
بلغ عدد “الحراقة” على الأراضي الليبية نحو 4000 شخص في مراكز الاحتجاز الرسمية، لكن العدد الفعلي أكبر من ذلك بكثير، بالنظر إلى صعوبة السيطرة على الظاهرة العابرة للحدود.
وساهمت عوامل داخلية في تأزيم الوضع، حيث تعمل أطراف داخلية على التربح من تهريب المهاجرين من الجنوب إلى الشمال قصد بلوغ أوروبا.
مصدر للربح
يسود اعتقاد لدى “الحراقة” ان الاضطرابات الأمنية والسياسية في ليبيا تجعلها منطقة عبور مناسبة إلى الضفة الشمالية، ما يزيد في أعداد المهاجرين القاصدين ليبيا.
ارتفاع عدد “الحراقة” الوافدين إليها، أوجد نشاطات ربحية جديدة، تقتات على تجارة وتهريب البشر.
ونظرا لمعرفتها بالمسالك الصحراوية، انخرطت قبائل في الجنوب والجنوب الشرقي وصولا إلى الشمال الليبي في تهريب المهاجرين.
مسارات
تعتبر مناطق جنوب ليبيا فضاء مناسبا لانتقال المهاجرين السريين بسبب الطبيعة الصحراوية هناك وضعف سلطة الدولة نتيجة الظروف الأمنية والسياسة منذ سقوط نظام القذافي.
يتخذ الحراقة في ليبيا أربع مسارات: من الشرق عبر مصر، ومن الغرب عبر غدامس والحدود الليبية التونسية.
لكن من الجنوب الغربي عبر الجزائر، الوضع مختلف، ذلك أن الجزائر تفرض رقابة شديدة في إطار مكافحة الهجرة السرية من دول الجنوب ومنطقة الساحل.
وجنوبا من التشاد إلى مدينة الكفرة، يستعمل المهاجرون هذا المسار القديم، لكن حاليا يشهد تراجعا بعد إيجاد ممر بديل من الخرطوم إلى ليبيا. وتعتبر مدينتا سبها والكفرة أكثر نقاط عبور الحراقة.
معظم الحراقة القادمين من دول الساحل يتنقلون في مناطقهم بشكل قانوني، خاصة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الإكواس، وعند بلوغ الحدود بين النيجر وليبيا يستعين هؤلاء الحراقة بمهربين.
وتشير شهادات نقلها محتجزون تعرضوا لابتزاز مهربي البشر، إلى تعرضهم إلى السطو، فبعد أن اتخذوا ليبيا منطلقا للهجرة نحو أوروبا وجدوا أنفسهم بين أيدي عصابة تسلّمتهم من تجار اليد الأولى.
وأجبروا على دفع مبالغ إضافية لتهريبهم إلى الضفة الشمالية، ومن لم يستطع الدفع يتعرض إلى العنف والاحتجاز في مراكز لا تتوفر على أدنى شروط الحياة.
لقاءات جوار
عقدت ليبيا لقاءات مع دول الجوار، إيطاليا ومالطا والاتحاد الأوروبي، لتدارس ملف الهجرة السرية وسبل التعاون، ودعم البلاد في مواجهة الظاهرة في ليبيا.
واشترطت ليبيا، ردا على مطلب الاتحاد بغلق مراكز الاحتجاز، مساعدتها للتصدي للظاهرة، وتزويدها بأجهزة حديثة لرصد ومتابعة ومنع تدفق المهاجرين السريين، وإشراك خفر السواحل الليبية في استراتيجية الحل، وليس تحميلهم مسؤولية حلها.
وطالبت ليبيا من الجيران الأوروبيين المساعدة في تأمين الحدود الليبية الجنوبية، وتقديم الدعم بالتقنيات وكافة السبل لحماية الجنوب الليبي.
ورد ذلك في اجتماع بين وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش ووزيري الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، والمالطي إيفاريست بارتولو، ومفوض الاتحاد الأوروبي لسياسة الجوار أوليفر فاريلي في ليبيا شهر ماي الماضي.
وتقتصر القدرات الليبية في مكافحة الهجرة السرية على ملاحقة “الحراقة” او رصدهم وترحيلهم إلى دولهم، ونظرا لضعف الإمكانيات والظروف الاستثنائية فيها، تحتاج ليبيا مساعدات خارجية لحماية حدودها.
ملف ضغط
تسببت التدخلات الأجنبية في أفريقيا، تحت غطاء مكافحة الإرهاب، في تفقير دول المنطقة، خاصة أفريقيا جنوب الصحراء، التي عانت من حروب داخلية منذ نهاية الحرب الباردة.
نهب تلك الدول، الغنية بالثروات الباطنية، وافتعال الحروب، تسبب في انعدام الأمن وارتفاع نسب البطالة وانعدام فرص العمل.
هذه عوامل دفعت الشباب الأفريقي إلى مغامرة قطع الصحراء نحو الشمال، والمخاطرة للوصول إلى أوروبا حيث حلم تحسين الظروف المعيشية.
لكن ارتفاع عدد المهاجرين السريين تسبب في اختلالات اجتماعية في الدول الأوروبية، وارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب الأوروبي، ما دفع تلك الدول لوضع قوانين صارمة لمكافحة الظاهرة.
القوانين الأوروبية لمكافحة “الحرقة” جعلت دول الضفة الجنوبية دركي أوروبا، وصارت تتحمل وحدها مسؤولية رد المهاجرين السريين او احتجازهم في مراكز مخصصة.
من هنا، بدأ الابتزاز الأوروبي لدول الضفة الجنوبية، واستغلال ورقة مراكز الحجز بادعاء أنها خرق لحقوق الانسان، تمهيدا للتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
الجزائر، مثلا، ردت على الاتهام ووضحت نقاط ظل قد لا يراها مشددو قوانين الهجرة السرية، بأن الهجرة لم تعد مطلبا اجتماعيا، بل صارت تهديدا أمنيا، بسبب تماهي الجماعات الإرهابية وسط المهاجرين لتنفيذ عمليات إرهابية.
وطالب المغرب أوروبا بدفع أموال لدفع رواتب رجال الأمن القائمين على حماية الحدود الأوروبية من الهجرة السرية. وتدفع أوروبا للمغرب 50 مليون أورو سنويا مقابل هذه الخدمة.
تهديد أمني
تماهت الحدود الفاصلة بين الهجرة كظاهرة اجتماعية، والهجرة باعتبارها تهديدا امنيا، ما يؤثر على التركيبة الاجتماعية لبعض الدول ويتسبب في بطالة السكان المحليين.
لعل من أسباب” مظاهرات السترات الصفراء” في فرنسا في السنتين الأخيريتين، ارتفاع معدلات البطالة وقلة فرص العمل، وتنامى العداء للأجانب فيها، على اعتبار انهم سبب في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي للفرد الفرنسي، مثلما يقول معارضو وجود مهاجرين سريين في فرنسا.
ما حدث في فرنسا تعيشه الكثير من دول البحر المتوسط، بسبب تنقل “الحراقة” ووجود جماعات تمتهن تهريب البشر وتجني ثروات طائلة.
منذ 2014 صنفت الجزائر الهجرة السرية تهديدا أمنيا، بسبب ارتفاع عدد “الحراقة” جراء ما يسمى “الربيع العربي”. حيث جندهم جماعات مسلحة وجماعات إرهابية، ومنظمات جريمة منظمة في صفوفها.
يعمل مهربو البشر في ليبيا في شكل جماعات جريمة منظمة، يختارون حراقة ” النخب الأول”، ممن يدفعون أموالا معتبرة فتُؤَمن لهم الطريق ويحصلون على الرعاية الصحية والتأشيرات إلى أوروبا.
وهناك صنف أدنى من الحراقة، وهم الفارون من الحروب، وعادة لا يملكون المال، يُستغلون في أحسن الحالات للتجنيد في صفوف الجماعات الإرهابية المسلحة.
ويتعرض آخرون للاحتجاز والتعنيف وتجارة الرقيق أو يستغلون في الدعارة، حيث أشار تقرير لمجلس الأمن صدر العام 2016 إلى تسجيل عودة هذه الظاهرة في ليبيا.
وكشفت تقارير أوروبية وصول فتيات ونساء حوامل في قوارب الهجرة تعرضن للاغتصاب من مهربين بعد مساومتهن مقابل التهريب.