أثارت الاحتجاجات الشعبية في مواجهة بعثة الأمم المتحدة بالكونغو الديمقرطية، التي بدأت منذ أواخر يوليو المنصرم، والتداعيات المترتبة عليها، الكثير من التساؤلات المتعلقة بمدى فاعلية البعثات الأممية لحفظ السلم في أفريقيا في التعامل مع التهديدات والمخاطر الأمنية.
تعد الأمم المتحدة أحد الفاعلين الدوليين الرئيسيين في حفظ السلم والأمن في أفريقيا منذ مطلع عقد السيتينيات من القرن الماضي، وظلت تحتفظ بالعدد الأكبر من بعثاتها السابقة والحالية في القارة الأفريقية؛ انطلاقاً من تنامي المخاطر والتهديدات الأمنية على مختلف المستويات.
وعلى الرغم من تنوع الاختصاصات والمهام المرتبطة بهذه البعثات في أفريقيا وفقاً لطبيعة كل حالة على حدة، فإن فاعلية أدوارها تأثرت بفعل إشكاليات عديدة.
واقع البعثات الأممية
تعود الجذور التاريخية لبعثات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة في أفريقيا إلى مطلع عقد الستينيات من القرن العشرين؛ حين كانت عملية الأمم المتحدة في الكونغو (ONUC) بمنزلة أول بعثة لحفظ السلم للأمم المتحدة في أفريقيا؛ وذلك خلال الفترة (يوليو 1960– يونيو 1964)، وقد نفذت الأمم المتحدة بوجه عام (25) بعثة سابقة في أفريقيا من إجمالي (59) بعثة سابقة لها على المستوى العالمي، وهو ما جعل أفريقيا تأتي على رأس الأقاليم الفرعية في العالم التي شهدت إرسال بعثات أممية سابقة لحفظ السلم في إطارها.
ويلاحَظ أن العدد الأكبر من هذه البعثات السابقة قد ارتبط في الأساس بعقد التسعينيات من القرن العشرين الذي شهد نشر (14) بعثة؛ وذلك من منظور تنامي عدد الصراعات القائمة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
وقد شهدت أنجولا العدد الأكبر من البعثات الأممية السابقة لحفظ السلم في أفريقيا، بواقع (4) بعثات على مدار نحو عقد من الزمان تقريباً؛ وذلك منذ أول عملية، وهي “بعثة التحقيق الأولي للأمم المتحدة في أنغولا” (UNAVEM I) التي كانت خلال الفترة (ديسمبر 1989 – يونيو 1991)، وصولاً إلى آخر عملية، وهي “بعثة المراقبة للأمم المتحدة في أنغولا” (MONUA)، التي كانت خلال الفترة (يونيو 1997 – فبراير 1999).
وقد كانت آخر البعثات التي أتمت مهمتها في أفريقيا هي “العملية المختلطة للاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور” (UNAMID)، التي انتهت ولايتها في ديسمبر 2020، وكانت قد نشأت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي في 31 يوليو 2007.
نصف عدد البعثات في إفريقيا
وللأمم المتحدة، في الوقت الراهن، (6) بعثات حالية لحفظ السلم في أفريقيا؛ من إجمالي (12) بعثة على المستوى العالمي، وهو ما يعني أن أفريقيا تستحوذ على نصف عدد البعثات الأممية الحالية لحفظ السلم.
ومرد ذلك إلى تنامي حجم التهديدات والمخاطر بأنماطها المختلفة المواجِهة لمنظومة السلم والأمن الإقليميين في أفريقيا، وهي: بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى (MINUSCA) التي تشكلت بقرار من مجلس الأمن الدولي في 10 أبريل 2014، وبعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO) التي تشكلت بقرار من مجلس الأمن الدولي في 28 مايو 2010.
إضافة إلى بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) التي تشكلت بقرار من مجلس الأمن الدولي في 25 أبريل 2013، وبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (UNMISS) التي نشأت بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي في 8 يوليو 2011، وقوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي (UNISFA) التي تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي في 27 يونيو 2011، وبعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (MINURSO) التي تشكلت بموجب قرار مجلس الأمن الدولي في 29 أبريل 1991.
دور رئيسي
يعكس الموقف الأفريقي الرسمي من وجود البعثات الأممية، الذي قد يختلف عن الموقف غير الرسمي، اقتناع الدول الأفريقية بأهمية الدور الذي تقوم به هذه البعثات، وهو ما يمكن تناوله على النحو الآتي:
1– تنامي المساهمة العددية في البعثات الأممية:
يوجد 4 دول أفريقية ضمن قائمة الدول العشر الأكثر مساهمةً بعناصر في البعثات الأممية لحفظ السلام وفقاً للموقع الرسمي للأمم المتحدة في 31 ماي 2022 وهي: رواندا التي تأتي في الترتيب الأول قارياً والرابع عالمياً؛ حيث تساهم بنحو (5277) عنصراً، ومصر التي تأتي في الترتيب الثاني قارياً والسادس عالمياً؛ حيث تشارك بنحو (2815) عنصراً، وغانا التي تأتي في الترتيب الثالث قارياً والسابع عالمياً، حيث تساهم بنحو (2751) عنصراً، والسنغال التي تشارك بنحو (2457) عنصراً وتأتي في الترتيب الرابع قارياً والتاسع عالمياً.
ويضاف إلى ذلك امتلاك دول أفريقية أخرى مساهمات عددية ملحوظة في هذا الإطار، وهي (إثيوبيا، وتنزانيا، والمغرب، وتشاد، وجنوب أفريقيا، والكاميرون، وتوغو)؛ علماً بأن بنغلاديش ونيبال تحتلان الترتيب الأول والثاني عالمياً على الترتيب في هذا الشأن.
ويُلاحَظ تزايد المساهمة الأفريقية في هذه البعثات منذ عام 2010؛ وذلك بعدما قدمت دول جنوب آسيا (بنغلاديش والهند ونيبال وباكستان) أكبر عدد من قوات حفظ السلام خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وربما يرتبط ذلك بأن العدد الأكبر من هذه البعثات الحالية قائم في أفريقيا لمواجهة التهديدات الأمنية الرئيسية، وهو ما دفع الدول الأفريقية إلى تعزيز مشاركتها في إطارها، لاسيما في ضوء التقاطعات الأمنية لهذه الدول مع الحالات التي نُشرت بها هذه العمليات؛ فإثيوبيا مثلاً تقتصر مشاركتها بالأساس على بعثتين: بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان، وقوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي؛ وذلك نظراً إلى الحدود المشتركة من الناحية الغربية لكل من جنوب السودان وجمهورية السودان مع إثيوبيا.
2– الاعتماد على البعثات لمواجهة التحديات الأمنية:
يًلاحظ أن ثمة قدراً كبيراً من الاعتماد الأفريقي على البعثات الأممية في مواجهة التحديات الأمنية القارية.
ويتأتى ذلك من منظور القدرات والإمكانات البشرية والمالية الهائلة التي تمتلكها منظومة الأمم المتحدة في هذا الإطار، والتي تفوق نظيرتها المتعلقة بالاتحاد الأفريقي كمظلة قارية؛ فعلى الرغم من امتلاك الأخير إطاراً قارياً مؤسسياً لهيكل السلم والأمن وفقاً للبروتوكول المنشئ لمجلس السلم والأمن الأفريقي في عام 2002، ونشره أولى بعثاته لحفظ السلم في بوروندي المعروفة باسم “أميب” في عام 2003، التي تلاها نشر لبعثات في دول أخرى من قِبل (السودان، زجزر القمر، مالي، أفريقيا الوسطى،..) فإن هذه البعثات افتقدت الفاعلية المطلوبة في تحقيق المقاصد المتعلقة بها بفعل العديد من الإشكاليات المالية والمؤسسية واللوجستية وغيرها.
3– المراهنة على القوات الأممية لدعم القدرات الإقليمية:
كشفت خبرات العقود الماضية عن مراهنة الدول الأفريقية على القوات الأممية كأداة لدعم القدرات الإقليمية والبعثات التابعة للاتحاد الأفريقي؛ فالكثير من البعثات التي نشرها الاتحاد الأفريقي كانت بمنزلة مرحلة أولية أو مؤقتة تمهد لنشر عمليات أممية لحفظ السلم، على غرار ما حدث في حالات مثل بعثة الاتحاد الأفريقي في بوروندي التي انتهت مهمتها في 31 ماي 2004، لتنتقل المسؤولية إلى بعثة حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة (ONUB)، وبعثة الاتحاد الأفريقي في السودان “أميس” التي انتهت مهامها وتحولت إلى “العملية المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور” في عام 2007، و”بعثة الدعم الدولية بقيادة الاتحاد الأفريقي في مالي” (AFISMA) التي نقلت مهامها إلى “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية مالي” في 1 يوليو 2013.
إشكاليات قائمة
بالرغم من الموقف الأفريقي الرسمي الإيجابي، في مجمله، تجاه وجود البعثات الأممية، فإن الموقف غير الرسمي دلل على توجه شعبي مغاير تجاه هذه البعثات.
ولعل هذا ما كشفت عنه الاحتجاجات الشعبية الأخيرة ضد بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية المعروفة باسم “مونوسكو”؛ حيث أغلق المتظاهرون الطرق ورفعوا شعارات مناهضة للأمم المتحدة، كما اقتحموا المقر المحلي للبعثة وقاعدة لوجستية، وقد أسفر ذلك عن وقوع مواجهات مباشرة بين الطرفين على نحو أدى إلى سقوط نحو (36) قتيلاً ونحو (170) جريحاً في عدة مدن بشرق الدولة.
وارتبط السبب الرئيسي لهذه الاحتجاجات في الأصل بمحدودية فاعلية الدور الذي تقوم به هذه البعثة من منظور سكان المجتمعات المحلية في الحد من المخاطر والتهديدات التي تتسبب فيها الجماعات المسلحة في هذه المنطقة وعلى رأسها حركة “23 مارس”.
وقد طالبت هذه الاحتجاجات بضرورة مغادرة عملية حفظ السلم وإنهاء مهامها، وفي محاولة لإحتواء الموقف قام المبعوث الخاص للأمم المتحدة في الكونغو الديمقراطية باحتجاز أفراد البعثة المتورطين في الحادث، وفتح التحقيق معهم على الفور، كما أكدت الأمم المتحدة أنه قد تم الاتصال بدول هؤلاء الأفراد حتى يمكن البدء في تبني الإجراءات القانونية العاجلة وتوقيع العقوبات المستحقة عليهم، بيد أنه في ذات الوقت، أدان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الهجوم على عناصر البعثة في الكونغو الديمقراطية.
وفي المقابل، اتخذت الحكومة الكونغولية قراراً يتضمن إعادة تقييم خطة انسحاب البعثة في ضوء الاحتجاجات القائمة بغية تسريع انسحابها المحدد له عام 2024 وفقاً لخطة وُضعَت العام الماضي (2021)، وهو القرار الذي أيدته البعثة من جانبها.
وعطفاً على ما سبق، يمكن القول إن البعثات الأممية لحفظ السلم في أفريقيا تواجه العديد من الإشكاليات الرئيسية التي تؤثر بدروها على قدرتها على القيام بالمهام والاختصاصات المفوضة إليها، وتتمثل فيما يأتي:
1– تراجع الثقة المجتمعية بالقوات الأممية:
وهو ما يعد بمنزلة واحدة من أبرز الإشكاليات القائمة والمتعلقة بمحدودية الثقة من قِبل المجتمعات المحلية بقدرة البعثات الأممية لحفظ السلم على الاضطلاع بأدوارها الرئيسية، وعلى رأسها حماية المدنيين، التي تعد المهمة الرئيسية لهذه العمليات؛ ففي بعض الحالات تنفذ الجماعات المسلحة مجازر ضد المدنيين؛ وذلك على مقربة من مواقع الارتكاز العملياتي لعمليات حفظ السلم، ولعل هذا ما يسفر عن وقوع العديد من الاحتجاجات من قبل المجتمعات المحلية في شرق الكونغو ضد عملية الأمم المتحدة لحفظ السلم منذ أواخر يوليو 2022، التي لا تعد الأولى من نوعها؛ حيث تواجه هذه البعثة اتهامات مستمرة بعدم القدرة على حماية المدنيين ووقف العنف ضدهم في مواجهة هجمات الحركات المسلحة؛ وذلك على الرغم من وجودها لأكثر من عقدين من الزمان.
2– ارتكاب الانتهاكات والاستغلال الجنسي:
فقد لاحقت عناصر البعثات الأممية خلال السنوات الماضية اتهامات بارتكاب التجاوزات السلوكية أو الأخلاقية ضد بعض فئات السكان المحليين (القُصر مثلاً)؛ حيث أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة حول التدابير الخاصة للحماية من الاستغلال والانتهاك الجنسيين، إلى أن العدد الإجمالي للادعاءات المتعلقة بالاستغلال والانتهاك الجنسيَّين التي وردت عبر منظومة الأمم المتحدة بلغ نحو (387) في عام 2020، وقد تبلورت هذه الإشكالية بجلاء في إطار بعض البعثات الأممية في أفريقيا؛ ففي ماي 2013 صدر تقرير مشترك من مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وبعثة الأمم المتحدة في الكونغو الديمقراطية (MONUSCO)، يكشف عن ارتكاب جنود كونغوليين أفعال عنف جنسي ضد المدنيين؛ حيث تعرضت نحو (97) امرأة و(33) فتاة للاغتصاب، بما في ذلك أطفال تقل أعمارهن عن ستة أعوام.
3– هيمنة مصالح القوى الكبرى على تشكيل البعثات:
تشير هذه الإشكالية إلى سيطرة وتحكم القوى الكبرى في النظام الدولي في القرار السياسي المتعلق ببعثات حفظ السلم التابعة للأمم المتحدة، وهو ما يتبلور بالأساس في أمرين رئيسيين، أما الأول فيتمثل في كون قرار تشكيل وتجديد اختصاص هذه البعثات يتم من خلال مجلس السلم والأمن الدولي، الذي تتحكم في قراراته القوى الخمس الكبرى الدائمة العضوية، التي تحتفظ بمفردها بحق النقض أو “الفيتو”، أما الثاني فيتمثَّل في عملية تمويل ميزانية الأمم المتحدة لعمليات حفظ السلم، التي تبلغ نحو (6.38) مليار دولار في العام المالي (1 يوليو 2021 – 30 يونيو 2022)؛ حيث تسيطر دولتان فحسب على نحو (43.1%) من هذه الميزانية، هما: الولايات المتحدة والصين؛ إذ تسهمان بنحو (27.89%) و(15.2%) على الترتيب، وهو ما يضعهما في الترتيبَين الأول والثاني في هذا الشأن.
4– الظروف المحلية غير المواتية:
تشير هذه الإشكالية إلى وجود بعض الصعوبات المتعلقة بالبيئة المحلية في بعض الدول الأفريقية التي يتم نشر بعثات أممية في إطارها، منها محدودية البنية التحتية أو الدعم اللوجستي اللازم لعمل هذه البعثات، ووجود نوع من التعارض المحتمل بين اختصاصات هذه البعثات وأدوار حكومات الدول المستضيفة؛ وذلك على نحو ما حدث في كل من (مالي، أفريقيا الوسطى، الكونغو الديمقراطية)؛ حيث إن التفويض الممنوح لبعثات حفظ السلم في هذه الدول قائم في جانب منه على تعزيز السلطة المركزية للدولة أو تسهيل محادثات السلام بين الحكومة المركزية والجماعات المتمردة؛ وذلك على الرغم من أن حكومة الدولة قد تكون طرفاً في معادلة الصراع الداخلي في الدولة.
وختاماً.. يمكن القول إن الرؤية المستقبلية تطرح ضرورة معالجة الإشكاليات التي تعرقل فاعلية البعثات الأممية لحفظ السلم وتؤثر على قدرتها على الاضطلاع باختصاصاتها في أفريقيا.
ويرتبط ذلك في الأساس بحتمية الالتزام بالمبادئ الرئيسية الحاكمة لهذه البعثات المتمثلة في موافقة الأطراف المحلية على عدم التحيز، وعدم استخدام القوة باستثناء حالات الدفاع عن النفس والدفاع عن الاختصاص (الولاية)، كما تطرح هذه الرؤية أهمية تقليص الاعتماد الأفريقي على هذه البعثات عبر تطوير القدرات الأفريقية في مجال حفظ السلم والأمن؛ وذلك بما يتفق مع مبدأ “الحلول الأفريقية للمشكلات الأفريقية”؛ وذلك عبر الاستفادة من التجارب والخبرات السابقة لمنظومة الأمم المتحدة في هذا الشأن من جانب، وتوفير مختلف الإمكانات المالية والبشرية واللوجستية اللازمة لدعم جهود الاتحاد الأفريقي والتجمعات الإقليمية الفرعية في حفظ السلم والأمن الإقليميين من جانب آخر.
المصدر: https://bit.ly/3R0fX7t