منذ مطلع الألفية الحالية، لم تتوقف التنبؤات ببداية تراجع الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على صنع القرار الدولي. مع صعود قوى متوسطة صارت فاعلة دوليا.
لم يتوقف المنظرون والمحللون السياسيون الأمريكيون أنفسهم، مذاك، عن تقديم النصائح والتوصيات للإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض بقصد تخفيف حدة الهبوط وآثاره.
وازدادت هذه الكتابات بشكل خاص مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث اتضح جليا أن الشركاء في الشرق لم يعودوا يقيمون وزنا للهيمنة الأمريكية المنتهية.
يُركّز المقال على التأثير الذّي أحدثته القوى المتوسّطة في التشكيل الجيوبولتيكي الناشئ ويضع الولايات المتحدة في النهاية أمام خياراتٍ محدودةٍ تُواجهها في المستقبل المنظور.
استمرارية في عالم متغير
كتبت آرتا مُعيني وكوليمان هوبكينز ، مقالا بعنوان “تحتاج أمريكا إلى تعاطفٍ إستراتيجي في عالمٍ متعدّد الأقطاب”، في مجلة “المصلحة الوطنية National interest “، في عدد ماي المنصرم. يكد فيه الكاتبان على عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التصرّف في عالم اليوم بالطريقة ذاتها حينما كانت في ذروة صدارتها العالمية.
خاصّةً وأنّ خطابها السياسي وسلوكاتها تجاه الحرب الأوكرانية الجارية، تُوحي بأنّها لا تزال تنظر إلى العالم وتتصرّف تجاه أزماته بعدساتِ الاستراتيجية الأُممية الليبرالية، والمنطق المثالي المتغطرس المانَوِي السابق الذّي يتسبّب في نهاية حقبة السلام الأمريكي.
لم تعد واشنطن تمتلك إمكانية التصرّف بحريّة، لقد تغيّرت أمريكا كما تغيّر عالم اليوم وصار أقرب إلى التعدّدية القطبية. لاسيما مع الصعود المتزايد للقوى المتوسّطة في النظام الدولي.
تأثير القوى المتوسطة
ينقسم المقال إلى ثلاثة أقسام. يُوضّح القسم الأول الطبيعة المختلفة لعالم اليوم متعدّد الأقطاب والذّي لا يُمكن أن تتصّرف فيه أمريكا كما كانت تفعل في العالم أحادي القطبية لحظة ذروة صدارتها العالمية.
لقد أظهرت الحرب الأوكرانية التأثير الذّي يُمكن أن تُحدثه القوى المتوسّطة في تحديد طبيعة بنية النظام الدولي المتشكّل. وأظهرت حدود الفعل الأمريكي في الأقاليم الأمنية لهذه القوى. ويَعتبر المقال روسيا قوةً متوسّطةً فاعلة (ربّما الأقوى بين القوى المتوسّطة المتواجدة) لا قوةً عظمى نظرًا لمحدوديّتها في تصدير قوتّها نحو الخارج عالميًا.
إعادة تاريخ
يُشبّه الكاتبان في البداية الخطاب والسلوك الأمريكييْن تجاه الحرب الأوكرانية وطريقة التصرّف تجاهها بخطابها وسلوكها أيّام إدارة جورج بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر. فقد تبنّت واشنطن ذات النزعة المانوية الثنائية الطوبوية في تقسيم العالم إلى “أبيض وأسود”، “من هم معنا ومن هم ضدّنا”، “عالمٌ ليبراليٌ حرٌّ وعالمٌ إستبداديٌ مُغلق”.
ويشيران إلى أن هذه المقاربة الأُممية الليبرالية، هي نفسها التّي تسبّبت في تضاؤل المكانة الأمريكية والأمن الأمريكي. ومكّنت لمنافسين إقليميّين كإيران وخلقت تحدّياتٍ أمنيةٍ جديدةٍ، بل وتتسبّب في إنهاء حقبة السلام الأمريكي.
ويعتبران أن تلك هذه غير الحكيمة لا تأخذ بعين الاعتبار التغيّرات الجيوبولتيكية الناشئة. وأبرزها صعود القوى المتوسّطة وتأثيرها المتنامي في النظام الدولي.
تحول جيوبوليتيكي
يُشير الكاتبان إلى تقريرٍ حديثٍ شاركَا في إعداده صدر عن معهد السلام والدبلوماسية حمل عنوان “قوى متوسّطة في عالمٍ متعدّد الأقطاب”، قدّم إطارًا نظريًا مُهمّا لتقييم هذا الموضوع. يؤكد التقرير على مركزية القوى المتوسّطة، مُوضّحًا بأنّها “تحتّل موقعًا ديناميكيًا بشكلٍ متأصّلٍ في العالم الجيوبوليتيكي الناشئ”.
ورغم انحصار هذه القوى في مناطق مُحدّدةٍ بسبب “جذورها الجغرافية” أساسًا، فإنّها تُعتبر قوى مُؤثّرة بشكلٍ خاصٍّ في مركّباتها الأمنية الاقليمية المعنيّة بسبب قوتّها النسبية تجاه جيرانها، والذّين يستفيدون منها لتحقيق أهدافهم أيضًا.
ويصل التقرير لنتيجةٍ مفادها أنّه من الصعب إكراه القوى المتوسّطة أو إخضاعها داخل مركّباتها الاقليمية لأنّها تسعى بإصرار لمتابعة مصالحها الملموسة داخل مجالاتها الحيوية. كما أنّ لها من القوة ما يُمكّنها من المساعدة في دعم النظام الدولي القائم، إذا ما وجدت فيه امتيازاتٍ تخدمها أو تحدي هذا النظام واداء دور القوى التعديلية إذا لم تجد فيه امتيازات.
روسيا الأقوى
هكذا يدعو التقرير القوة العظمى البعيدة (الولايات المتحدة) التّي تسعى لأن تتعدّى على المُركّبات الأمنية الاقليمية لهذه القوى أن تعترف بدلاً من ذلك بالاستقلالية الاستراتيجية الذاتيّة لهذه الدول المركزية وتأخذها جدّيًا بعين الاعتبار حينما تصنع استراتجيتها الكبرى.
يَعتبر الكاتبان روسيا إحدى أقوى هذه القوى المتوسّطة، لكن رغم مكانتها داخل مركّبها الأمني الاقليمي إلاّ أنّ واشنطن لم تعترف بهذه الحقيقة على نحوٍ حكيمٍ. ولم تمنح روسيا أيّ اعتبارٍ أو حُرمةٍ في أيّة مسألةٍ متعلّقةٍ بجوارها هذا طيلة عقودٍ ماضيةٍ وصولاً إلى الحرب في أوكرانيا. إنّ عدم اعتراف واشنطن وحلفائها بالمخاوف الأمنية الروسية، كتوسيع الناتو شرقًا، يُعتبر خطأً كارثيًا، فحينما صاغت موسكو حدودها الحمراء بوضوح، كان على واشنطن أن تُصغي بحذر.
نقطة صدام
يُوضّح القسم الثاني الكيفية التّي اصطدمت بها النزعة المثالية الليبرالية (التّي تُصّر واشنطن على تبنّيها) بالحقائق الجيوبولتيكية الجديدة لعالم اليوم، ويقصد حقيقة التأثير المتنامي للقوى المتوسّطة.
فحينما شرعت واشنطن في حشد الحلفاء ضدّ “الغزو” الروسي لأوكرانيا وتسليط العقوبات على روسيا فوجئت بتردد العديد من البلدان، بمن فيهم حلفاؤها التقليديّون بدلا مساندتها تلقائيا.
تمرد
وما يجمع العديد من هذه البلدان الرافضة للالتحاق الأعمى بسياسة واشنطن هو أن أغلبها قوى متوسّطة لها مصالحٌ إقليميةٌ وأمنيةٌ واقتصاديةٌ مستقلّةٌ، تتضارب مع النظرة الأمريكية المانويّة للعالم. فهي تنظر بعين القلق للقوة العظمى التّي تتدخّل متطفلّةً على المركّبات الإقليمية الأمنية البعيدة لغيرها.
علاوةً على ذلك، فقد لاحظتْ هذه القوى كيف تجاهلت واشنطن المخاوف الأمنية لموسكو منذ عقودٍ، في وقتٍ كانت تُدحرِجُ أوكرانيا باتجاه خطرٍ قاد إلى حربٍ مُدمّرة. لذا من المحتمل ألاّ تأخذ واشنطن على محمل الجدّ مصالح قوةٍ متوسّطةٍ أخرى في مجالها الحيوي إلاّ إذا وُجد تقاطعٌ ما بينهما في وجهات النظر.
إضافةً لما سبق، كشفت الحرب الأوكرانية بأنّ حرص القوى المتوسّطة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية الجوهرية في مركبّاتها الأمنية الاقليمية يتفوّق على علاقاتها بواشطن.
وأوضحت بأنّه من المفضّل على القوى الهامشيّة المجاورة لإحدى هذه القوى المتوسّطة أن تعمل مع الأخيرة جنبًا إلى جنب بدلاً من الاتّباع الأعمى للخطّ الأمريكي. وبأنّ الدبلوماسية ربّما تكون الاستراتيجية الأولى والوحيدة بالنسبة لواشنطن إذا أرادت التنافس مع القوى المتوسّطة في مركّباتها الأمنية الاقليمية المعنيّة.
فشل النزعة الليبرالية
يؤكّد القسم الثالث فشل النزعة الأممية الليبرالية التّي تتبنّاها واشنطن حاليًا في تحقيق المصالح الأمريكية الضرورية. فقد ساهمت هذه المقاربة في حدوث الأزمة الأوكرانية ثمّ مفاقمتها من خلال عرض الصراع في صيغةٍ مانويّةٍ مُبسّطةٍ بين الأبيض والأسود، ممّا دفع قوى متوسّطة عديدة إلى معارضة سياسة واشنطن تجاه روسيا والحرب.
لا تريد الولايات المتحدة أن تستوعب بأنّ العالم صار متعدّد الأقطاب خلافًا لما كان عليه سنة 2001، مع صعود الصين كقوة عظمى وصعود دولٍ حضاريةٍ وقوى متوسّطة راسخة قادرة على الاستفادة من غطرسة أمريكا وغلّوها الاستراتيجي.
ضرورة تراجع
لذلك على واشنطن أن تضبط تموضعها من أجل تجنّب مزيدٍ من الاحراج والإضرار بمصالحها الوطنية الحيويّة، لاسيما تفوقّها المالي العالمي. على واشنطن أيضًا أن تضغط عبر وسائل الدبلوماسية لإنهاء الصراعات التّي تنخرط فيها قوى متوسّطة كالحرب في أوكرانيا واليمن. إنّ أيّة إطالةٍ لأمد هذه الصراعات يُسبّب مزيدًا من الاستنزاف وعدم استقرار النظام الدولي الذّي تقوده واشنطن والذّي يُدفع أصلاً نحو الانهيار.
خلاصة القول، تقف الولايات المتحدة اليوم أمام خياريْن: قبول التعدّدية القطبية وصعود القوى المتوسّطة وبالتالي تبنّي استراتيجية أكثر واقعية ومنطقية. أو إنكار هذه الحقيقة والإصرار على تموضعٍ لا يمكنها الدفاع عنه والحفاظ عليه أساسه القيام بما يحلو لها في جوارها الاقليمي وتحريم ذلك على القوى الأخرى. إذا ما اختارت واشنطن الخيار الثاني فستضمن صراعًا لا داعي منه في العديد من المركبّات الأمنية الإقليمية الأخرى كما يحدث في أوكرانيا. كلذلك سيضرّ بمكانة أمريكا ويُعرّض حياة الملايير للخطر.
الكاتب: آرتا مُعيني وكوليمان هوبكينز، تحتاج أمريكا إلى تعاطفٍ إستراتيجي في عالمٍ متعدّد الأقطاب، مجلّة المصلحة الوطنية، ماي 2022، الولايات المتحدة.
إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية، جوان 2022، إسطنبول-تركيا.