تتشابه أسباب صعود اليمين المتطرف في عديد الدول الأوروبية، بداية من 2001، التي تزامنت مع أحداث الـ11 سبتمبر وارتفاع مشاعر كره الأجانب من المسلمين خاصة، مرورا الأزمة المالية العالمية لسنة 2008، ووصولا إلى أحداث الربيع العربي.
في خضم هذا الصعود، تبدي الدول الأوروبية تخوفا واضحا، وتسعى الأحزاب التقليدية واليسارية إلى التحالف لمنع صعود اليمين المتطرف، لما لأفكاره من تهديد للاتحاد الأوروبي.
أفكار
ينبني الخطاب السياسي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا على أساس رفض كل ما هو أجنبي، والتركيز على الهوية والخصوصية الثقافية. ضد المهاجرين والأجانب والإسلام والتنوع الثقافي والاتحاد الأوروبي، وتحميل المهاجرين واللاجئين مشكلة تفشي البطالة والجريمة والتخلف.
وبسبب تبعات 11 سبتمبر والأزمة المالية العالمية 2008، ثم أحداث الربيع العربي، لاقى خطاب اليمين المتطرف رواجا وسط الشعوب الأوروبية.
ولعل إيطاليا هي أولى دول أوروبا تقريبا التي شهدت صعود اليمين إلى السلطة وإنهاء عقود من حكم اليسار الذي اتسم بالتسامح. ويعزى السبب إلى سياسات الدول الأوروبية تجاه إيطاليا، حيث تركتها وحدها تصارع أمواج المهاجرين الفارين من الحروب في ليبيا وسوريا وباقي دول جنوب وشرق المتوسط، وكذا دول أفر يقيا ما وراء الصحراء. .
وعليه بنت أحزاب اليمين المتطرف خطابها السياسي وحملاتها الانتخابية على أساس تخليص إيطاليا من قوافل المهاجرين ومحو رموز المد الإسلامي فيها أهمها المساجد.
فرنسا
في فرنسا، كان العالم الاقتصادي أكبر الدوافع لصعود اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان رئيسة حزب الجبهة الوطنية، وانتشار أفكاره.
كانت فرنسا من أكثر الدول المتضررة من ظاهرة الهجرة، ونتج عنها ظهور شرائح واسعة من المواطنين تعاني البطالة والتهميش، وعاجزة عن مواكبة التحولات الاقتصادية الناجمة عن العولمة، مع استمرار الركود الاقتصادي والتضخم.
هذه الأسباب، دفعت إلى الميل إلى خطابات اليمين المبنية على تحميل الأجانب والمهاجرين واللاجئين مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للمواطن الفرنسي.
وأسفرت دراسة مسحية حول مناطق فوز اليمين المتطرف في فرنسا، أن أحزاب اليمين حققت نسبا عالية حيث تنتشر البطالة والظروف المعيشية المتدنية.
في 2017 حققت الجبهة الوطنية نسبة عالية من الأصوات بلغت 33.9 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين، مقابل 42.4 في انتخابات 2022.
وازدادت قوة اليمين المتطرف بعد أحدث الربيع العربي وموجات اللجوء والهجرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أوروبا، ومنها فرنسا.
أسباب أخرى
من أسباب صعود اليمين، الشتات الذي أصاب الأحزاب التقليدية الفرنسية العتيدة، اليمين واليسار الوسط ، بداية من 2002. وتفرق الأصوات بسبب انقسام تلك الأحزاب وتأسيس أحزاب جديدة، لكن بالبرامج نفسها تقريبا. وبالتالي تفرقت الأصوات على كيانات حزبية مجهرية ولم تعد تحقق النسبة الأكبر.
وفي هذه الأثناء بدأ نجم اليمين المتطرف مع زعيمة الجبهة الوطنية جان ماري لوبان بالبزوغ، حيث حقق نسبة 20 بالمائة من أصوات الناخبين، واعتبرت النتيجة آنذاك صادمة، لأن فرنسا كانت قائدة الحشد الأوروبي، ضد النمسا وإيطاليا إثر مشاركة أقصى اليمين في الحكم هناك.
يضاف إلى ذلك مظاهر العولمة التي بدأت تهدد القيم الثقافية المحلية وبالتالي نادت أحزاب اليمين المتطرف بحماية الهوية والانتماء القومي.
إلى جانب توسع الحاضنة الشعبية لأفكار اليمين المتطرف، حيث أجريت دراسة في 2016، ترصد مناعة الشعوب الأوروبية ضد الأفكار المتطرفة، وخلصت الدراسة إلى أن 63 بالمائة من الفرنسيين يؤيدون أفكار اليمين المتطرف.
وهي نسبة اعتبرها محللون مقلقة جدا، لأنه رغم أن نسبة تأييد البريطانيين لأفكار اليمين المتطرف لم تتعد 48 بالمائة ،إلا أنهم صوتوا لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.
الاتحاد الأوروبي وخطر اليمين
كما ذكرنا أعلاه فإن الخطاب السياسي الذي يتبناه اليمين المتطرف في حملاته الانتخابية ومعاركه السياسية قائم على إشكاليات الهجرة، الهوية الثقافية، وتهديدات العولمة لخصوصيتها الحضارية واللغوية بل الوطنية.
وتشير هذه المسائل إلى الميل إلى الانغلاق على الذات، تنامي الشوفينية الوطنية أو القومية من خلال الدعوة إلى غلق الحدود، ومنع دخول الأجانب وطردهم لحماية الهوية الوطنية.
ومكن الخوف هنا من أن هذه الدعوات قد لا تنحصر في الأجانب القادمين من خارج الاتحاد الأوروبي، بل قد يتعداه الأمر إلى المهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي أنفسهم. من دول أوروبا الشرقية التي تعاني وضعا اقتصادية أقل راحة من نظيره في أوروبا الغربية.
وبالتالي قد يذهب الخطاب إلى عداء بين الجيران الأوروبيين أنفسهم، والمطالبة بالانسحاب منه، وتفكيكه وإلغاء العملة الأوروبية الموحدة. خاصة وان أحزاب اليمين تنتقد باستمرار سيطرة مؤسسات الاتحاد الأوروبي على القرارات الوطنية للدول الأعضاء.
وبالتالي يخشى أن تتسبب سيطرة اليمين المتطرف في أوروبا في العودة إلى المفهوم الوستفالي للدولة القومية التقليدية، وإلى تشديد الرقابة على الحدود والعملة الوطنية الخاصة بكل دولة. وبالتالي زوال الاتحاد الأوروبي الذي عملت أوروبا على تحقيقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. أو على الأقل إعادة النظر في آليات عمله.
سيناريو متفائل
يرى اتجاه آخر أن صعود اليمين في أوروبا وفرنسا على وجه التحديد، قد يكون بداية نهاية الظاهرة، لأن أجيالا عاشت في ظل الرفاه والديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والسلام، وتحولها إلى مسلمات في مخيال المواطن الأوروبي، تجعله يرفض ما ينادي به اليمين المتطرف.
ولعل الأوروبيين لم ينسوا نتائج آخر مرة حكمت أنظمة متطرفة أوروبا، حيث أدت النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا إلى حرب عالمية راح ضحيتها ما يقرب من 58 مليون نسمة.