هذا المقال تنبيه لصانع القرار الأمريكي من تراجع القوة البحرية الأمريكية، التي تمكنت بفضلها الولايات المتحدة الأمريكية من السيطرة على محيطات العالم والتواجد ونشر قواعد عسكرية في مختلف بقاع العالم. ويحذر من تنامي القوة البحرية الصينية.
تؤكد الكاتبة كوري شاكي، في مقال بعنوان “ضائعٌ في عَرض البحر: الانحدار الخطير للقوة البحرية الأمريكية”، على الأهمية الجيوستراتيجية المتنامية للبحار والمحيطات، في تحديد مستقبل التنافس الجيوبوليتيكي بين القوى العظمى في القرن الحادي والعشرين.
تنافس بحري بين الصين وأمريكا
يشير المقال إلى أن المنافسة بين واشنطن وبيجين ستصير على نحوٍ متزايدٍ صراعًا على القوة البحرية. لذلك، فإنّ أمن الولايات المتحدّة وازدهارها سيعتمدان على الهيمنة البحرية العسكرية والتجارية، وتدّق الكاتبة ناقوس الخطر.
وتدعو الإدارة الأمريكية لوقف الانحدار الخطير المستمر الذّي تعرفه القوة البحرية الأمريكية منذ سنوات، إذا أرادت واشنطن الفوز في هذه المنافسة الجيوبولتيكية، لاسيما مع تنامي تهديد الصين الصاعدة بسرعة “ذات النظام الاستبدادي المُعادي للولايات المتحدة”. حسب وصفها الكاتبة.
وتُقدّم الكاتبة، في سياق مُحاججتها هذه، عرضًا نقديًا لكتابين جديدين في هذا الصدد صدرا عام 2021، يرتكز كلاهما على الطرح الجيوستراتيجي الكلاسيكي لألفريد ماهان عن مركزية القوة البحرية وأولوية الهيمنة البحرية في صراع السيطرة على العالم.
الكتاب الأول لــ “بروس جونز “لبسط السيطرة على الأمواج: كيف يُشكّل التحكّم في محيطات العالم قَدرَ القوى العظمى”، أمّا الثاني فيحمل عنوان “العصر الأزرق: كيف خلقت البحرية الأمريكية الازدهار العالمي ولماذا نُحن مهدّدون بخطر بفقدانه” لــ “كريج إيستربروك”.
أهمية متزايدة
ينقسم المقال إلى أربعة أقسام. توضّح الكاتبة في القسم الأول الأهميّة التجارية والعسكرية المتزايدة للمحيطات، حيث يتّم نقل حوالي 90% من البضائع المتداولة في العالم عن طريق البحر، لذا تُعتبر التجارة البحرية والقوة البحرية أمرًا بالغ الأهمية لشبكات سلالسل التوريد العالمية، لهذا فهي تُؤكّد بأنّ السيطرة على البحر سوف تكون العامل المُحدّد للقرن القادم، مُعتمدةً على بعض الحُجج المُقدَّمة من طرف كلٍّ من جونز وإيستربروك.
صراعات جديدة
على سبيل المثال، يُقدّم جونز خرائط لشبكاتٍ هائلةٍ من خطوط أنابيب الوقود وكابلات النقل الموجودة تحت البحر ليُحاجج بالدور المحوري للمحيطات في واقع الطاقة وفي الكفاح العالمي بشأن قضية تغيّر المناخ، كما يُوضّح بأنّ “المحيطات صارت بسرعة أهمّ منطقةِ مواجهةٍ بين اللاعبين العسكريّين الكبار في العالم”، فالأنماط التعاونية للقرن العشرين آخذةٌ في التآكل ممّا يُمهّد الطريق لصراعاتٍ جيوبوليتيكيةٍ جديدةٍ بدأت الآن في أعالي البحار، مُحذّرًا من تضاؤل الهيمنة البحرية الأمريكية.
أمّا إيستربروك فيدعو أيضًا للحفاظ على الهيمنة البحرية الأمريكية ويُحاجج بأنّ لها فضلاً كبيرًا في خفض الفقر بالعالم النامي وتحسين المعايير الماديّة للحياة في كلّ مكانٍ عبر العالم تقريبًا. ويُجادل بقدرة واشنطن على تعزيز الامتداد العالمي للبحرية الأمريكية عبر مُتابعة إجراءاتٍ عديدة.
تتفّق الكاتبة مع الباحثيْن بشأن الحجج المُتعلّقة بتنامي أهميّة المحيطات وتَراجع القوة البحريّة الأمريكية، لكنّها تصف توصيات الباحثيْن لتدارك هذا الخطأ بالطوبوية وغير الدقيقة مُقدّمةً بعضًا من الأمثلة.
تراجع أمريكي
يُقدّم القسم الثاني مؤشّراتٍ وأرقامًا بشأن تضاؤل القوة البحرية الأمريكية التّي ستكون مهمّةُ استعادتها ضروريةً للحفاظ على النظام الدولي الذّي تقوده واشنطن.
على سبيل المثال، في عام 1950 كان الأسطول البحري التجاري الأمريكي يُمثّل 43% من الشحن العالمي، بحلول سنة 1994 انخفضت الحصّة إلى 4% فقط. ويحتّل هذا الأسطول حاليًا المرتبة 27 عالميًا بينما يحتّل نظيره الصيني المرتبة الثانية.
يجعل هذا النقص البلاد تعتمد على أسطولها البحري (the US Navy) الذّي تقلّص هو كذلك بشكلٍ كبير. حيث كان للبحرية الأمريكية سنة 1930 عدد سفنٍ أكثر ممّا تمتلكه اليوم.
في الوقت الذي تحلّ الصين محلّ الولايات المتحدة كأكبر قوةٍ بحريّةٍ في العالم سنة 2020. يهدف البنتاغون إلى زيادة حجم الأسطول من 306 إلى 355 سفينة بحلول سنة 2034، لكنّه هدفٌ بعيد المنال لم يُوفّر له الكونغرس التمويل بعد.
علاوةً على ذلك، تُحاجج الكاتبة بأنّ مجموعة الالتزامات المفروضة على عاتق الجيش الأمريكي بسبب الإستراتيجية العسكرية الحاليّة (كالاستعداد لصراع محتملٍ مع الصين، الالتزام بالدفاع عن الحلفاء وإرسال قوّاتٍ إلى أوروبا في حال تعرّض أحد حلفاء الناتو لهجوم)، تجعل منه جيشًا مستنزفًا للغاية.
كما أنّ الفجوة القائمة بين الالتزامات البحرية وقدرات الأسطول تتسبّب في إنهاك البحريّة الأمريكية، فضلاً عن وجود خللٍ في “الثقافة البحرية” للضبّاط عمومًا، والتّي “تمنح الأعمال الإدارية البيروقراطية قيمةً أكبر على حساب أمورٍ أخرى أكثر أهميّة كالتدريب على القتال والتعامل مع السفن وغيرها من المهام الجوهرية اللازمة لكسب الحروب.
تأثير المشاكل الداخلية على الريادة
ينتقد القسم الثالث الإدارات الأمريكية السابقة والحاليّة لما بلغته القوة البحرية الأمريكية من تدهور، لأنها سمحت منذ ما يقرب من العقدين بتنامي الفجوة بين الإستراتيجية المُعلنة من جهة وبين الوسائل العسكرية الموجودة وما يُوّفَرُ لوزارة الدفاع من ميزانيةٍ من جهةٍ أخرى.
تقوم إدارة بايدن مثلاً بتوجيه طاقتها إلى أولوياتٍ أخرى كالجائحة، التراجع الساحق للاقتصاد، أزمة العدالة العرقية ومشاكل المناخ، فأولوياتٍ كهذه لن تجعل الولايات المتحدة تمتلك جيشًا قويًّا ذا كفاءة.
أمّا ميزانية الدفاع فهي الوكالة الفيدرالية الوحيدة التّي لم يزد تمويلها في ميزانية بايدن المُقترحة لعام 2022، وحتّى مع وجود إضافةٍ مُقترحةٍ من الكونغرس فلن تقترب الميزانية الحاليّة من المستوى المطلوب.
حيث تتطلّب الإستراتيجية الحاليّة للولايات المتحدة ميزانيةً دفاعيةً تبلغ 1 تريليون دولار، وهو ما يُعادل 5% من الناتج المحلّي الإجمالي للولايات المتحدة، كما ستتطلّب أيضًا مضاعفة الــ 59 مليار دولار المُخصّصة لوزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
توصيات
يُقدّم القسم الأخير مجموعةً من التوصيات للإدارة الأمريكية لتعزيز السيطرة على البحار حتّى لا تفقد واشنطن هيمنتها العالمية مثلما حدث لبريطانيا من قبل.
تحثّ الكاتبة على أولوية الاستثمار في الابتكارات التقنية فهي بمثابة “البدلة الرسمية القويّة للجيش الأمريكي”، كما يجب أن يعكس الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة هذه الأولوية.
وبما أنّ الصين هي التهديد العسكري الأساسي للولايات المتحدة في منطقة الإيندو-باسفيك (ذات المسرح البحري) أين يرجح أن يندلع الصراع مثلما ترى إدارة بايدن، فإنّه من الضروري على الأخيرة أن تُخصّص مزيدًا من التمويل للجيش الأمريكي بأكمله وإعطاء الأولوية للبحريّة الأمريكية على الجيش الأمريكي والقوات الجويّة من أجل الدفاع عن الحلفاء هناك.
وتوصي أيضا بتأمين المسرح على نطاقٍ أوسع، ذلك أنّ تضاؤل الاهتمام بالقوة البحرية من شأنه أن يُرسل رسالةً خاطئةً إلى الحلفاء والشركاء. فإذا كانت الولايات المتحدة تريد الاستمرار في وضع قواعد النظام الدولي وتطبيقها فعليها أن تستجيب لبعض النصائح القديمة: “لا تُدر ظهرك للمُحيط أبدًا”.
الكاتب: كوري شاكي، ضائعٌ في عَرض البحر: الانحدار الخطير للقوة البحرية الأمريكية، مجلّة الشؤون الخارجية، عدد مارس/ أفريل 2022، الولايات المتحدة.
إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)