مضى شهر على بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولما كانت هذه الحرب تدور في جوهرها بين غيلان النظام الدولي، فان مخاطرها قد تطال كل ركن من أركان المعمورة، عسكريا وسياسيا واقتصاديا وبيئيا واجتماعيا، ولعل ذلك ما دفع الخبراء لمحاولة تصور “خاتمة هذه الحرب”.. فما هي الاحتمالات المرجحة؟
لقد جمعت 38 تقريرا مستقبليا حول الحرب الأوكرانية، وكان بعضها أقرب للتنبؤات الحدسية، وبعضها أقرب لخواطر آنية، والبعض الآخر ملخصات لمناقشات في مراكز دراسات مختلفة (غربية وروسية وصينية وإسرائيلية.. الخ)، وبعضها لباحثين في الدراسات المستقبلية، وبعضها مقابلات إعلامية مع مفكرين مرموقين)، مع الأخذ في الاعتبار أن بعضها ينتمي لأطراف النزاع مع تباين في درجة استقلالية هذه الدراسات ومدى انحيازها.
ويمكن تحديد أهم النتائج لهذه الجهود الفكرية في الآتي:
أولا التوقعات الإستراتيجية:
أي تلك التي تأخذ طابعا عالميا ولها سمة الاتجاه الأعظم (mega-trend) وتتمثل هذه في النتائج التالية:
أ- تقسيم أوروبا وجعل مناطق من أوكرانيا منطقة عازلة بين روسيا وأوروبا وتكريس امتناع أوكرانيا عن عضوية الناتو.
ب- تنامي الخلافات في المعسكر الغربي بخاصة إذا نجح بوتين في انجاز أهم أهداف عمليته العسكرية من ناحية، وإذا استمر تنامي القوة الصينية وهو المرجح من ناحية ثانية، إلى جانب استمرار تنامي العلاقة الروسية الصينية (ارتفعت تجارة روسيا مع الصين من حوالي 6% من إجمالي تجارتها عام 2005 الى نسبة 17.9% حاليا).
وستتعزز هذه الخلافات داخل المعسكر الغربي مع استمرار التراجع الأمريكي الذي يميل اغلب الأكاديميين الأمريكيين لترجيحه (وهو ما رصدناه في دراسة منشورة).
ت- تعميق العلاقة الإستراتيجية بين روسيا والصين في كافة الميادين وليس فقط في الميدان التجاري وهو توجه تبناه بوتين منذ عام 2012 وكان احد نقاط برنامجه الانتخابي الأكثر وضوحا.
ث- تأكيد عدم تدخل الناتو بشكل مباشر في الحرب نظرا للخوف من تصاعد المواجهة مع دولة (روسيا) التي تمتلك 5977 (خمسة آلاف وتسعمائة وسبع وسبعين) رأسا نوويا.
ثانيا: مستقبل الاتجاهات الفرعية في الصراع:
ونجد هذه في دراسات متعددة باللغة الانجليزية مثل (Atlantic Council وBruegel وBrookings Institution وCarnegie EuropeوCentre for Eastern Studies وCentre for European Policy Studies وCentre for European Reform وChatham House وClingendael وCouncil on Foreign Relations وDeutsche Gesellschaft für Auswärtige Politik وEuropean Centre for International Political Economy وEuropean Council on Foreign RelationsوEgmont..الخ) وتتمثل أهم النتائج لرصد الاتجاهات الفرعية في الآتي:
أ- إعادة الاهتمام الأمريكي بالأمن الأوروبي قد يؤثر على الالتزامات الأمريكية تجاه الشرق الآسيوي، وهو أمر تخشى نتائجه اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان.
ج- احتمال العودة لسباق تسلح دولي وإقليمي.
ح- تنامي الدور الألماني في السياسة الأوروبية تحديدا.
خ- الحرب الأوكرانية قد تسرع الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني.
د- تكريس فكرة التقليص المستقبلي للاعتماد الأوروبي على روسيا في مجال الطاقة.
ذ- احتمال تأميم الاستثمارات الغربية في روسيا والتي تقدر بمئات المليارات من الدولارات.
ر- وقف بيع المواد الخام الروسية المهمة جدا للصناعة الأوروبية مثل البلاديوم (تمتلك روسيا منه 44% من الناتج العالمي) وبلاتونيوم (13%) والتيتانيوم (23%) وفانديوم (34%) والنيكل (الثالث عالميا)، ناهيك عن تأثير حصارها على الاقتصاد العالمي بخاصة أنها من الدول الهامة للغاية في بعض قطاعات التجارة مثل الغاز والنفط والسلاح والقمح.
ز- احتمالات تصاعد الحروب السيبرانية.
س- إذا اتسعت الحرب وتواجه الناتو مع روسيا فان منطقة الشرق الأوسط بسبب انتشار القواعد الغربية والروسية فيها قد تكون ضمن رقعة المواجهة.
ش- احتمال اتساع نشاط الشركات الأمنية الخاصة.
ثالثا: التوقعات الآنية والتكتيكية للحرب الدائرة :
وتتمثل في:
1- تنبؤ نيل فيرجسون (Nial Ferguson) (مؤسسة هوفر البحثية): يرى انه خلال الشهور الثلاثة القادمة سيتمكن الجيش الروسي من السيطرة لكن حكومة منفى أوكرانية ستقوم، ويتم على الأرجح تمركزها في مدينة لفيف (lviv) على الحدود البولندية، وستبدأ بتلقي المساعدات العسكرية الغربية بخاصة من الناتو لاستمرار المقاومة ضد القوات الروسية، وهو ما سيطيل الحرب لفترة أطول مما خطط الروس.
2- تنبؤ الأستاذ الجامعي والباحث في مؤسسة هنري جاكسون تاراس كوزيو Taras Kuzio بانتصار روسي لكنه مكلف جدا، وتقسيم أوكرانيا وإقامة حكومة تابعة لموسكو في كييف “وقد ” يكون رئيسها هو الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش (Viktor Yanukovych) والذي تم عزله عام 2014. وستحاول روسيا أن تعيده باعتبار ان إقصاءه كان نتيجة مؤامرة غربية.
3- الخبير الاقتصادي تيم آش (Tim Ash) يرى ان السيطرة الروسية على أوكرانيا ستتم لكن حرب الاستنزاف لروسيا ستأخذ فترة طويلة وسيكون الانتصار الروسي انتصارا باهظ الثمن وسيضطر روسيا في نهاية المطاف للانسحاب من أوكرانيا على غرار تجربتها الأفغانية.
4- احتمال القبول الأوكراني تحت الضغط العسكري بمنح شرق أوكرانيا حكما ذاتيا وإضافة نص دستوري بعدم انضمام أوكرانيا للناتو.
5- مقتل أو فرار الرئيس الأوكراني.
6- التهديد الروسي بان استمرار تدفق السلاح الغربي إلى أوكرانيا قد يدفع روسيا لتوسيع دائرة الحرب لتشمل قوى معادية لكنها ليست أعضاء في الناتو مثل مولدافيا او جورجيا من ناحية او احتمال ان يهدد بان يرسل قواته الى ليتوانيا (وهي عضو في الناتو) لإنشاء ممر بري يصل الساحل الروسي عند البلطيق.
7- احتمال ان تصل الوساطات الدولية إلى حل سلمي بتقديم تنازلات أوكرانية تطمئن روسيا.
8- احتمال حدوث تغيير في السلطة الروسية وعزل بوتين بخاصة مع تعثر عسكري او مع ضغط العقوبات الاقتصادية والضغط على النخبة الروسية الملتفة حول بوتين.
9- المواجهة المباشرة بين روسيا والناتو، بسبب فرض منطقة حظر جوي فوق اوكرانيا، او تمدد العمليات العسكرية لأراضي دولة من دول الناتو مثل بولندا او ليتوانيا.
ذلك يعني أن اغلب الدراسات تنتهي الى ان بوتين سيحقق أهدافة المركزية في أوكرانيا، لكنه سيتحمل عبئا كبيرا للغاية وستكون السنوات الخمس القادمة هي مرحلة انتقالية تضع الأساس لطبيعة النظام الدولي القائم مع ترجيح بأنه سيكون متعدد الأقطاب.