يخشى أكاديميون أمريكيون ومختصون من بروز قوى أخرى خارج العالم الغربي تنافس الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى إلى الإبقاء على نفسها قوة وحيدة مهيمنة. وهذا ما يتضح من خلال كتابات نشرت حول التقارب الصيني الروسي، وحول العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، وتبعات هذا التحول في العلاقات الدولية.
يعتبر هؤلاء الكتاب ذوو النزعة الأممية الليبرالية، أن أي منافس للولايات المتحدة الأمريكية، سيكون بالضرورة استبداديا خاصة إذا كان من منطقة أوراسيا، التي تعتبر مصدر رعب للغرب منذ مطلع القرن العشرين. ويستمر التنظير في هذا السياق على أساس استمرار الصراع على قلب العالم أوراسيا. ويفصل كاتب المقال مخاوف أمريكا بكثير من الذاتية ورفض الآخر المختلف.
الكابوس الأمركي
يعتبر هال براندز (أحد روّاد النزعة الأُممية الليبرالية)، في مقال بعنوان “الكابوس الأوراسي.. التقارب الصيني-الروسي ومستقبل النظام الأمريكي”، أنّ التقارب الصيني-الروسي الحالي والتقاء هاتين القوتيْن على تحدّي الريادة الأمريكية العالمية يُعيد إحياء ما يعتبره “الكابوس الجيوبولتيكي الأعظم” للعصر الحديث بالنسبة للولايات المتحدة. ويصف الكابوس ببروز “قوةٍ أو وفاقٍ استبداديٍ” يسعى للهيمنة على أوراسيا التّي تُعدُّ المسرح الاستراتيجي المركزي للعالم.
ما يُظهره السلوك الروسي حاليًا في أوكرانيا والصيني في غرب “الباسفيك”، حسب الكاتب، يُمثّل إحدى ملامح هذا الكابوس على طرفيْ أوراسيا. ويستحضر الكاتب هنا “نبوءة” هالفورد ماكيندر ونظريّته الشهيرة عن “أوراسيا وقلب العالم”.
حيث حذّرت كتابات ماكندر منذ عام 1904 من أنّ الحقبة القادمة ستشهد صراعاتٍ عاليةِ الخطورة للسيطرة على أوراسيا والمحيطات حولها. وتجلّت هذه النبوءة في الحربيْن العالميتيْن ثمّ الحرب الباردة، وها قد صارت وثيقة الصلّة بالقرن الحادي والعشرين الذّي يعمل فيه خصوم الولايات المتحدة (الصين وروسيا) على إنشاء نظامٍ عالميٍ مُعَدّلٍ بشكلٍ أساسيٍ تكون فيه “أوراسيا الاستبدادية” مركزًا له على حدّ تعبيره.
أوراسيا قلب العالم
ينقسم المقال إلى أربعة أجزاء. يُذكّرنا الجزء الأول بأهمّ ما جاء في نظرية ماكيندر عن أوراسيا وقلب العالم، وأبرز الخصائص التّي تحظى بها أوراسيا وتجعل السيطرة عليها تعني تحقيق الهيمنة العالمية.
كتموقعها الجغرافي الوسطي وانفتاحها على البحار بشكلٍ واسعٍ وثراءِ مواردها التّي تسمح ببناء أساطيلٍ بحريّةٍ منقطعة النظير تُمكّن المُتحكّم فيها من توسيع إمبراطوريته عبر البحار.
ظلّت أوراسيا تحظى بهذه المكانة والخصائص المتميّزة، حيث جرت فيها المواجهات الكبرى الثلاث للقرن 20م (الحربيْن العالميتيْن والحرب الباردة) التّي كانت مواجهاتٍ بين “دولٍ استبداديةٍ” سعت للسيطرة على مساحاتٍ شاسعةٍ من أوراسيا والمحيطات المجاورة لها، وبين تحالفاتٍ أبرمتها لندن وواشنطن مع الدول الواقعة على حافّة أوراسيا من أجل احتواء هذه “الدول الاستبدادية.”
تغيّرت أدوات المنافسة طيلة هذه الحقب التاريخية، لكن ظلّت المخاطر هي نفسها بالنسبة للولايات المتحدة التّي أدرك صنّاع القرار فيها بأنّ “أوراسيا العدوانية الاستبدادية” سوف تعيد تشكيل العالم بشكلٍ جذري.
وها هي الولايات المتحدة تواجه اليوم نسخةً جديدةً من كابوسٍ قديم. لذلك، يحاجج الكاتب بأنّ “الدراما الجيوبولتيكية القادمة” سوف تدور في هذه الكتلة الأرضية الأوراسية وحولها.
تكامل صينو-روسي
يتحدّث الجزء الثاني عمّا يُسمّيه بــ “ألاعيب الهيمنة” بين القوى العظمى في أوروسيا من أجل تشكيل النظام الدولي، حيث تتوافق كلٌّ من الصين وروسيا على إسقاط النظام القائم والاستفادة من الفوضى التّي يُحدثها كلٌّ منهما فيه.
ويقول هال براندز: إنّهما مستاءتان من النظام الذّي تقوده واشنطن لأنّ النفوذ الأمريكي يعيق طريقهما نحو الهيمنة على الشؤون العالمية، ولأنّ المبادئ الليبرالية التّي يقوم عليها النظام الدولي تتعارض مع الأنظمة غير الليبرالية التّي أنشأها قادتهما في الداخل.
لذلك يرى الكاتب بأنّ كلّاً من الصين وروسيا يُمثّلان معًا تحدّيًا شاملاً للتوازن الجيوبولتيكي في أوراسيا وخارجها. إلاّ أنّه يرى بأنّ قدرات الصين أكبر من قدرات روسيا، ممّا يجعل جهودها أكثر جرأةً، لاسيما في استئصال النفوذ الأمريكي من آسيا البحريّة وتعزيز مجال النفوذ الصيني في غرب “الباسفيك” وأوراسيا عمومًا، عبر حضورها العسكري البحري وبرامج الاستثمار في البنية التحتية (مبادرة الطريق والحزام وطريق الحرير الرقمي) وغيرها.
إنّها تبحث –باختصار- عن “هيمنةٍ هجينة” في البرّ والبحر. تتقاطع مناورات بيجين مع جهود موسكو لتعديل الوضع القائم في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والقطب الشمالي والشرق الأوسط ومسارح أخرى، ليس لدى موسكو أملٌ في بناء نظامٍ عالميٍ يتمحور حولها، لكن بامكانها أن تُضعّف النظام القائم من اتجّاهٍ واحد، بينما تُهاجمه بيجين من جهاتٍ أخرى.
حدود التعاون
يوضّح براندز في الجزء الثالث مجالات التعاون بين القوتيْن بسبب التقارب في الهدف الأساسي، أيْ “الاطاحة بالنظام القائم”. تشمل هذه المجالات مثلاً توسيع العلاقات الثنائية التجارية والطاقوية، الدعم الدبلوماسي المتبادل في المنظمات الدولية، التعاون في منظمة شنغهاي، التعاون العسكري والتكنولوجي الدفاعي وغيرها.
بل إنّ البَلدان يُساعدان بعضهما البعض على المدى البعيد حينما يتابعُ كلٌّ منهما أهدافه الفردية، كاستخدامهما للمعلومات المُضلّلة والتدخّل في المجتمعات الليبرالية وجعل المنظمات الدولية أكثر وديّة تجاه أنظمة الحكم غير الليبرالي.
علاوةً على ذلك، تقف القوتّين مساندتيْن ظهر بعضهما البعض على طول الحدود المشتركة في أوروسيا ممّا يجعلهما أكثر تحرّرًا للتركيز على جعل النظام الذّي تقوده أمريكا يتآكل ويجعل أمريكا عُرضةً للمضايقة من قِبل منافسيْن منفصليْن بدلاً من تركيز قوتّها ضدّ أيٍّ من الخصميْن على انفراد.
رغم التقارب العالي بين القوتّيْن، يرى الكاتب بأنّ هناك قيودًا لهذه الشراكة، فمن غير المُرجّح مثلاً أن تتجّه الصين وروسيا للدفاع عن بعضهما البعض في نزاعٍ ما ضدّ واشنطن وإن كانا يُقدّمان المساعدة لبعضهما البعض بطرقٍ أخرى كتبادل المعلومات الاستخباراتية.
كما يُحاجج بأنّ بيجين لن تخاطر بالانخراط على نطاقٍ واسعٍ في خرق العقوبات التّي فرضها الغرب على موسكو، ولن تجد موسكو بالتالي راحةً اقتصاديةً مع بيجين مُماثلةً لراحتها مع الغرب. على المدى البعيد، “لن تستمتع روسيا بالعيش في العالم الذّي يتصوّره شي جينبينغ” كما يقول. أمّا حاليًا، فإنّ المأزق الأوراسي لواشنطن سوف يزداد سوءًا.
تفعيل الاحتواء
يُقدّم الكاتب في القسم الأخير توصياته لواشنطن من أجل تحطيم الشراكة القويّة بين موسكو وبيجين. لن يُجدي في نظره أسلوب تقديم تنازلاتٍ واسترضاءاتٍ ما لموسكو ضدّ بيجين لأجل إحداث الانقسام، سوف يرى بوتين في صفقات الغرب اعترافًا بنجاح استراتيجية الضغط التّي يتبنّاها، فيضغط بقوةٍ أكثر.
وبدلاً من ذلك، يدعو براندز لاحياء استراتيجية الاحتواء الناجحة أثناء الحرب الباردة والتّي تمكّنت فيها واشنطن من احتواء كلٍّ من الصين والاتحاد السوفياتي بعدما أدركت عدم وجود طريقةٍ مقبولةٍ للفصل بينهما وأنّ كلاهما يُمثّل تهديدًا لها.
إذ دفعت لتقاربهما معًا ثمّ انتظرت فرصًا لاحداث الانقسام بينهما مُستغلّةً نقاط التوتّرات القائمة بينهما آنذاك بعدما أدركت بأنّ شراكتهما ستُنتج بؤسًا لهما أكثر من الربح. تمتلك الولايات المتحدة وحلفاؤها القوة الغاشمة لاتّباع استراتيجية احتواء مزدوجٍ مماثلةٍ اليوم.
إلاّ أنّ تفعيلها، يستدرك الكاتب، يحتاج إلى برنامج إعادةِ تسليحٍ رئيسيةٍ والإلحاح على الحلفاء بأهمية إدراك التهديد والتعاون الأعمق وتعزيز المرونة الجماعية للبلدان التّي تمسك التوازن على طول محيط أوراسيا.
ويختم بأن إعادة إحياء استراتيجية الاحتواء المزدوج بهذه الطريقة يُعتبر طرحًا طموحًا بعيد المدى. لكنّ تطبيقها سيجعل الولايات المتحدة تخوض حربيْن باردتيْن على طول الطريق.
الكاتب: هال براندر، الكابوس الأوراسي.. التقارب الصيني-الروسي ومستقبل النظام الأمريكي، مجلّة الشؤون الخارجية، فيفري 2022، الولايات المتحدة الأمريكية.
هال براندز محلل استراتيجي امريكي، وأستاذ كرسي هنري كيسنجر للشؤون العامة في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز الأمريكية
إعداد وترجمة: جلال خَشِّيبْ، باحث مشارك أول بمركز دراسات الإسلام والشؤون العالمية (CIGA)