من يظن أن بوتين أخذ قراره فجأة بالتدخل في أوكرانيا واهم تماما، ويكفي أن أشير إلى أن أهم مفكر روسي معاصر وهو الكسندر دوغين (Alexander Duggin) والذي يسميه الغرب “دماغ بوتين” (Putin mind) عالج القضية وحدد مسارها بالتفصيل في كتابه “أسس الجيوبولوتيك” الصادر عام 1999، ويضم أكثر من 770 صفحة، وورد موضوع أوكرانيا من صفحة 400 وذلك في الفصل السادس الخاص بتحديد إستراتيجية روسيا في بناء الإمبراطورية الأوراسية.
ويقول دوغين ما يلي (من صفحة 400 وما بعدها حتى 445) لاحظ أن هذه الجوانب عرضت في الكتاب عام 1999)
1- إن النزعة الاستقلالية لأوكرانيا ستثير نزاعا مسلحا مع روسيا.
2- إن سيطرة الناتو على البسفور والدردنيل يجعل من السيطرة على البحر الأسود أمرا لا قيمة له لتحقيق الوصول للمياه الدافئة.
3- إن محاولة الانضمام إلى الناتو من قبل أوكرانيا تمثل “شذوذا مطلقا يتم من خلال خطوات غير مسئولة”.
4- إن النزعة الاستقلالية لأوكرانيا تمثل تهديدا خطيرا لمشروع الأوراسية التي هي الهدف المركزي لإستراتيجية روسيا.
5- يجب السيطرة الروسية على شواطئ البحر الأسود الشمالية سيطرة مطلقة امتدادا من الأراضي الأوكرانية إلى الأراضي الأبخازية.
6- إبعاد تام للنفوذ الغربي من هذه المنطقة.
ويعود دوغين لموضوع أوكرانيا في صفحة 432- 438 فيقول:
أ- إن الواقع الجيبولتيكي والإثني الأوكراني لا يسمح لها إلا أن تكون “محايدة” لا غربية ولا شرقية.
ب- وجود أوكرانيا بحدودها الحالية وبتوجهاتها السيادية هو “ضربة قاصمة إلى الأمن الجيوبولوتيكي لروسيا ويعادل اختراق أراضيها”.
ت- يجب تقسيم أوكرانيا إلى:
1- أوكرانيا الشرقية (من شرق نهر الدنيبر إلى حتى بحر أزوف). وتغلب عليها القومية الروسية والأرثذوكسية.
2- القرم: وهي منطقة متنوعة من الناحية الإثنية ولبعض مجموعاتها ارتباطات معادية للجيوبولتيك الروسي (مثل التتار)، لذا يجب السيطرة على القرم وجعلها تابعة للسيادة الروسية.
3- الوسط الأوكراني من تشيرنيغوف إلى أوديسا، وهي منطقة اقرب لأوكرانيا الشرقية، ويدخل في النظام الجيوبولوتيكي الروسي دون شروط.
4- الغرب الأوكراني وهو الاكثر عداء لروسيا ويجب اجتثاث تبعيته للأطلسي، وان يقام فيه “المجمع الدفاعي القاري الأوراسي”، الذي يتعاون فيه القلب الأوراسي (روسيا) مع القلب الأوروبي (المانيا) لاستكمال فك الرباط بين أوروبا والولايات المتحدة على المدى البعيد، لان وجود أوكرانيا مستقلة هو بمثابة “إعلان حرب جيبولوتيكية على روسيا”.
5- إن تجنب روسيا لضربة أطلسية يستوجب إجراءات روسية فورية مع أوكرانيا.
بالمقابل فان الوثيقة التي وقعها بوتين عام 2015 (وهي تطوير لوثيقة حول نفس التوجهات وقعها عام 2009) لتحديد إستراتيجية روسيا والتي هي إعادة صياغة لسياسات عبر عنها منذ 2002، تشير في جوهرها إلى نفس ما عرضه دوغين عن أوكرانيا.
وتشير هذه الوثيقة التي تحمل الرقم 0001201512310038 إلى بناء إستراتيجية تحول دون أي توسع للناتو في الجوار القريب من الحدود الروسية وبخاصة الغرب الأوكراني. وتشير الوثيقة التي تقع في 40 صفحة إلى دور الولايات المتحدة في الانقلاب على الحكومة الأوكرانية عام 2014 والى نشر شبكة من المختبرات البيولوجية في أوكرانيا والى نصب صواريخ مضادة في الجوار الروسي وبخاصة أوكرانيا.
كل ذلك يعني أن انفجار الأزمة ليس إلا استكمالا لتخطيط بدأ نظريا قبل 23 سنة ووضعت خطط التنفيذ خلال الـ7 سنوات السابقة والآن حان موعد صفارة البدء…
فالأزمة لها آجال، فترة تكامل عناصر الأزمة، وفترة المواجهة العسكرية، وفترة معالجة ما بعد وقف إطلاق النار، وفترة استمرار العقوبات الاقتصادية، ثم فترة معالجة آثار العقوبات للعودة للوضع الطبيعي أو شبه الطبيعي.