من الممارسات الراسخة في السياسة الخارجية للدول هي إيجاد عدو خارجي لصرف نظر الرأي العام الداخلي عن أزمات أو مشاكل داخلية. وهي ممارسة لصيقة بالولايات المتحدة الأمريكية، التي كلما واجهت أزمة داخلية أوجدت عدوا خارجيا لامتصاص غضب الشارع.
ماذا يحدث في الداخل الأمريكي ليدفع هذه القوة العظمى المتجهة إلى زوال، لتستفز روسيا بهذه الطريقة المباشرة وتحاول جرها إلى الحرب، من خلال تزويد أوكرانيا بمعدات عسكرية . في الوقت الذي تنتظر روسيا ردا مكتوبا من الولايات المتحدة الأمريكية حول الضمانات الأمنية التي طلبتها روسيا خلال جولات الحوار الأمني الاستراتيجي بين الطرفين في الفترة بين 09 و13 جانفي 2022. وهو ما سيتناوله الجزء الأول من الموضوع، على أن يتطرق الجزء الثاني إلى الظروف الدولية التي جعلت أمريكا تسير في هذا النهج.
العدو الخارجي في سياسة الدول
تتحكم في السياسة الخارجية للدول العديد من المحددات الداخلية والخارجية. تتمثل المحددات الداخلية في البيئة الداخلية أي نطاق ممارسة الدولة لسيادتها والمقصود داخل حدودها الجغرافية. وتنقسم إلى مقدرات قومية اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية ومدى تطورها. ومشكلات اجتماعية أي تلك المتعلقة بالثبات الاجتماعي والاقتصادي خلال فترة زمنية ثابتة. ومنها التضخم البطالة، الصراع العرقي أو الطائفي، وعدم الاستقرار السياسي.
ويفترض منظرو السياسية الخارجية أن تفاقم المشاكل ذات الطابع السياسي والاجتماعي، تدفع السلطة السياسية إلى التنفيس عنها بافتعال مشكلات خارجية لصرف نظر الرأي العام الداخلي إليها، أو ما يعرف “فرصة المهرب الخارجي”.
ويشار هنا أيضا إلى ان مستويات المشاكل الداخلية تتدرج من مجرد احتجاجات شعبية على حرب أهلية، كما يتدرج افتعال الازمات الخارجية من مجدر انتقاد السياسية الخارجية للدولة الخصم إلى الحرب الشاملة.
أزمات داخلية
تعيش الولايات المتحدة الأمريكية على وقع أزمات داخلية، ورغم ان الرئيس جو بايدن، الذي يحتفل هذا الأسبوع بمرور عام على تنصيبه رئيسا، كان وعد في حملته الانتخابية بأنه سيحل مشاكل جميع الأمريكيين. إلا ان ذلك بدا غير ممكن. خاصة ما تعلق بأزمة العنصرية بين التي يمارسها البيض ضد الزنوج هناك.
تزامنت نهاية عهدة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتصاعد اعتداءات القتل من الأمريكيين البيض لمواطنيهم من أصول أفريقية. ولعل حادثة مقتل جورج فلويد في مدينة اوهايو على يد شرطي أبيض، أبرز مثال، أدى الى موجة احتجاجات.
ووعد بايدن بإنهاء العنصرية في أمريكا في العهدة الرئاسية، لكن وعوده تلك لم تجد إلى التجسيد طريقا، بعد فشل تمرير قانوني “حرية التصويت” وقانون “جون لويس”. حيث صوت الكونغرس ضد مشروع القانون الذي وافق عليه مجلس النواب الأسبوع الماضي. ليزيد ذلك من تعميق أزمة العنصرية في المجتمع الأمريكي.
فبعد مقتل كل من جورج فلويد، بريونا تايلور، وأمريكيين آخرين من أصول أفريقية على يد الشرطة، قدم الديمقراطيون في الكونغرس الأمريكي قانون عدالة الأفعال الشرطية لعام 2020، لإصلاح الشرطة. يشمل إجراءات ضد إساءات الشرطة، واستخدام القوة المفرطة، والانحياز العرقي في عملها.
التضخم وأزمة الطاقة
سجلت معدلات التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى مستوى لها منذ 39 عاما، خلال الأشهر الأخيرة من 2021. وتسبب هذا التضخم في ارتفاع أسعار العديد من المواد على رأسها أسعار الطاقة، في وقت يعيش النصف الشمالي من العالم ازمة طاقة حادة بسبب تبعات الإجراءات المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا، وموجة الصقيع والشتاء المبكر الذي حل بأقصى النصف الشمالي من الكرة الارضية.
وعليه قررت الولايات المتحدة الأمريكية السحب من المخزون الاحتياطي الاستراتيجي للنفط، قصد مواجهة الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة.
وبلغت أسعار الطاقة مستوى قياسي لها في الو م ا، منذ 2014، ما اضطر إدارة بادين على إقرار الاستعانة ب 13.4 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي. وهي ثاني مرة تلجأ فيها أمريكا لمثل هذا القرار. لتبلغ الكمية المسحوبة 40 مليون برميل.
وتـأتي الخطوة في إطار خطة الرئيس جو بايدن لسحب 50 مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي للنفط. ومن شأن ارتفاع أسعار الطاقة تهديد تعافي الاقتصاد الأمريكي الذي عانى على غرار باقي اقتصادات العالم من تبعات فيروس كورونا والغلق التام للمصانع والشركات خلال 2020.
وتمتد هذه التبعات الاقتصادية إلى مضاعفة المخاطر السياسية المحيطة برئاسة بايدن، وقدرة الديمقراطيين على الاحتفاظ بالأغلبية في الكونجرس في الانتخابات النصفية المقبلة.
إلزامية التلقيح
من المشاكل الأخرى التي تواجه إدارة بايدن، إلزامية التلقيح ضد فيروس كورونا. حيث فشلت إدارته في الحد من تفشي الفيروس خاصة مع المتحورات الجديدة التي ظهرت خلال العام الماضي.
ومن أجل مواجهة الفيروس وسرعة انتشاره خاصة مع متحور أوميكرون، اقترح بايدن |إجراء يقضي بالتطعيم الإلزامي لموظفي المؤسسات الصحية التي تستفيد من تمويل حكومي. وأثار هذا الاجراء صداما بين القضاة التقدميين المؤيدين جدا له والمحافظين الذين يشككون في نجاعة التلقيح. وينتظر ان يطبق التلقيح على نحو 10 ملايين شخص.
لكن إذا فشل تطبيق الإجراء فإن ذلك سيشكل ضربة أخرى لبرنامج بايدن الذي تعهد فيه بالقضاء على الفيروس. وفي حال حدث ذلك ستكون ثاني ضربة بعد فشل تمرير قانوني إصلاح الممارسة الشُّرطية.
تحول جيوبوليتيكي
بروز روسيا كأحد أقطاب النظام الدولي الجديد لا يروق الويات المتحدة الأمريكية، التي مازالت تعتبر نفسها قوة مهيمنة. إذ سعت روسيا إلى العودة إلى مناطق نفوذها قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، خاصة في أفريقيا التي تزخر بثروات لا حصر لها. وهي بذلك تهدد مناطق نفوذ حلفاء أمريكا.
في مالي مثلا، التي يتظاهر سكانها ضد التواجد الفرنسي، اكتشفت كميات كبيرة من مادة الليثيوم التي تعتبر أساسية في صناعة بطاريات التكنولوجيات الحديثة. ناهيك عن اليورانيوم الذي تولد منه فرنسا 75 بالمائة من الطاقة الكهربائية. وثروات أخرى ليس المقام لعدها. ولذلك ترفض الانسحاب من مالي تحت ذريعة مكافحة الإرهاب.
وبوركينافاسو التي شهدت قبل أيام فقط انقلابا عسكريا، شهرا ونصف بعد اجتماع الرئيس روك مارك كريستيان كابوري مع وفد عسكري فرنسي لبحث تعاون عسكري مشترك.
وجمهورية أفريقيا الوسطى التي انتخب فيها رئيس موال لروسيا رغم ظروف الحرب بعد إزاحة كل مترشح موال لفرنسا.
دون أن ننسى المشاريع الاقتصادية التي شرعت فيها روسيا في عدد من الدول، نذكر منها مشروع المنطقة الصناعية الروسية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس في مصر، بقيمة نحو 7 مليار دولار. ومشروع استغلال البلاتين في زيمبابوي بقيمة 1.6 مليار دولار في درادنفيل. ومشروع استخراج احجار الماس من أنقولا، الذي تمتلك روسيا 50.5 بالمائة من حصته. ومشاريع أخرى في زامبيا والجابون وموزمبيق في مجالات الطاقة والنفط والغاز.
هذا التوسع الروسي يشكل تهديدا للتواجد الغربي في القارة إذا ما أضفنا إليه التحالف الروسي-الصيني.
التحالف الروسي-الصيني
الحديث عن هذا التحالف ليس وليد اليوم. ويعود إلى بداية الألفية مع تولي فلاديمير بوتين الحكم في روسيا. وبداية العمل على عودة روسيا قوية إلى الساحة الدولية بعد انطواء دام عقدا من الزمن.
في 2005، قامت تايوان – المدعومة من أمريكا- بمناورة عسكرية في مضيق تايوان، والمستهدف هو الصين العدو التقليدي. ونفذت الصين وروسيا أسبوعا بعد ذلك مناورة عسكرية في البحر الأصفر. وكانت تلك بداية “شيء ما” حسب محللين آنذاك.
وتحول ذلك “الشيء” إلى تحالف حقيقي بين القوتين. وصار يشكل تهديدا بل وخطرا على الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت المهيمنة على العالم خلال العقود الثلاث الأخيرة. تهديد يشاركها فيه حلفاؤها.
وتوج هذا التحالف سنة 2021 بتمديد الطرفين معاهدة حسن الجوار والصداقة والتعاون، وتبادل زيارات رسمية في الوقت الذي تواجهان مضايقات أمريكية وغربية، جراء صعودها وبرزهما كقوتين فاعلتين في العلاقات الدولة من جديد. إلى جانب تنسيق المواقف حول القضايا الإقليمية، إذ قال الرئيس الصيني إن بلاده تنسق مع روسيا حول المستجدات في أفغانستان، عقب الانسحاب الأمريكي المفاجئ منها. إلى جانب الموقف الصيني المحايد من الأزمة الأوكرانية. والدعوة إلى الحوار في إطار اتفاق مينسك.
اتفاق أوكوس
ومما يصب في مذهب رغبة أمريكا جر روسيا إلى حرب، هو اتفاق يوكوس، بين الحلف الغربي الأنجلوسكسوني: أمريكا بريطانيا وأستراليا. ويتضمن الاتفاق تزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، وتتمتع بمحركات أكثر هدوء من التي تعمل بالديازل.
ويرمي الاتفاق إلى تعزيز الوجود الغربي في المحيط الهادي على تخوم الصين التي تزداد قوة في فرض نفوذها في محيطها الجيوبوليتيكي الطبيعي.
الاتفاق الذي توسع إلى أستراليا كان حكرا بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا خلال فترة الحرب الباردة لمواجهة “الخطر الاحمر”. وهذا ما دعا الصين للتعليق على الاتفاق وتشبيهه بأساليب الحرب الباردة.
ويبدو جليا أن هذا الحلف الذي ضحى أطرافه بفرنسا رغم أنها حليفة الو م أ، يدل أن الأنجلوسكسون قد حسموا أمرهم في مواجهة عدو مشترك جديد هو التحالف الصينو-روسي.
هل الحرب حل؟
إذا تتبعنا السياسة الخارجية الأمريكية في حالة العداء، نجدها تدخل خصومها في حرب استنزاف لإضعافهم وتقويضهم. ومثال ذلك العراق وإيران حيث دفعتهما لحرب استنزاف، كان الرابح الوحيد فيها هو أمريكا، مع تدمير مقدرات العراق الذي آل إلى ما هو عليه اليوم، وفرض عقوبات على إيران.
ثم حولت حروبها إلى حروب جيل خامس من خلال استهداف الدول وإضعافها من الداخل باختلاق مواجهات بين الأنظمة ومعارضيها، وفي سوريا- الحليف الروسي- مثال حي على ذلك.
ومن هذا المنطلق يمكن أن نطابق بين أسلوب أمريكا في الحالتين المذكورتين من حيث المبدأ، أي استنزاف الخصم. لكن يبدو ان أمريكا تعتمد الطريقة الأقدم مع روسيا، وهي محاولة جرها إلى مواجهة عسكرية مباشرة ضد أوكرانيا، بقصد إضعافها وشغلها وعزلها عن الصين، خاصة وان الصين لا تحبذ النهج الغربي القائم على التحالفات، وتفضل بناء علاقات سلمية مع الجميع بطرق غير التحالف على النهج الغربي.