ارتبطت سمعة الجزائر في إفريقيا بدعمها غير المشروط لقوى التحرر السياسي والاقتصادي ضد أشكال الاستعمار التقليدي والحديث في القارة. وخلال عقود مضت، شكل ذلك الرأسمال الرمزي أحد أهم أدوات التأثير لسياسة خارجية جزائرية تضطلع بدور القائد الإقليمي ضمن عمقها الإفريقي. لكن حجم تأثيره ما فتئ يتضاءل تدريجيا في عالم تغير بشدة وسرعة بنهاية الحرب الباردة. يهدف هذا المقال إلى تقدير السياسة الإفريقية للجزائر في ظل تغيرات دولية حملت معها تغييرا في قيمة أدوات التأثير الرمزية، تلك التي مكنت لتأسيس القدرة على التأثير الجزائري في إفريقيا، أمام غلبة الأجندات الأمنية والمصالح الاقتصادية. وعلى افتراض أن الرصيد التاريخي للدبلوماسية الجزائرية في إفريقيا لا يكفي وحده لاستعادة النفوذ في العمق الاستراتيجي الإفريقي، توصل المقال إلى نتيجة تستدعي ضرورة أن تستثمر الدبلوماسية الجزائرية رأسمالها الرمزي التاريخي في إفريقيا، ليتعزز بتعاون أمني وحضور اقتصادي مكثف يتناسب مع مكانة، حجم وثقل الجزائر في القارة.
الدكتور رابح زغوني
متخصص في تحليل السياسة الخارجية
جامعة 08 ماي 1945 (قالمة)
جعلت الجغرافيا من إفريقيا بالنسبة للجزائر قدرا، ومنحتها موقع البوابة الشمالية للقارة حيث البحر المتوسط معبر المرور نحو عالم الشمال، لذا لم يكن التملص عن التفكير في قيادة القارة سوى تقاعس عن أداء دور أهدته الجيوبولتيك للجزائر. ومبكرا، كان قد أدرك صناع القرار في الجزائر أهمية إفريقيا، فشكلت القارة السمراء قبل الاستقلال قاعدة خلفية للثورة التحريرية في سياق التضامن الثوري بين دول العالم الثالث. أما بعده، فجاء واضحا أن العمق الإفريقي سيكون على قدر كبير من الأهمية في استراتيجية الجزائر الشاملة.
رمزيا، ارتبطت سمعة الجزائر في إفريقيا بعظمة الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وقد شكل ذلك إحدى المحددات الرئيسية لملامح سياسة خارجية جزائرية ناشئة بعد الاستقلال تجاه القارة؛ بفضل التوجه الثوري للنخبة الحاكمة آنذاك في صورة أول رئيسين للجزائر أحمد بن بلة وهواري بومدين؛ اللذان أرادا للجزائر أن تضطلع بدور “قلعة الثوار”، فصارت الجزائر عاصمة لحركات التحرر الإفريقية من أجل الدعم المادي والتدريب العسكري قبل الاستقلال وتكوين النخب والإطارات الإفريقية بعده. وخلال عقد السبعينيات، واصلت الجزائر ممارسة دورها الريادي في القارة ولكن هذه المرة عبر البوابة الاقتصادية، حين قادت الجزائر مطالب كتلة العالم الثالث بالحق في نظام اقتصادي عالمي جديد ضمن حركة دول عدم الانحياز.
غير أن نهاية النظام الاستعماري أولا ثم بداية تشكل نظام دولي جديد تاليا، حملت معها تغييرا في قيمة أدوات التأثير الرمزية التي مكنت لتأسيس القدرة على التأثير الجزائري في إفريقيا، أمام غلبة الأجندات الأمنية والمصالح الاقتصادية. إن طبيعة التحولات الدولية في هيكلية النظام الدولي وأدوات التأثير فيه، تزامنت مع أزمة داخلية معقدة أجبرت الجزائر على الانكفاء الداخلي خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، لتجد الجزائر نفسها مع بداية الألفية الجديدة أمام بيئة متغيرة غير تلك التي صنعت فيها تأثيرها القاري، ومجبرة على وضع إستراتيجية جديدة مناسبة لعام متغير. وحيث بدا أن الرصيد التاريخي الدبلوماسية الجزائرية في إفريقيا لا يزال هو الرأسمال الرمزي الأكبر الذي تحاول الجزائر استثماره في بناء علاقات قويّة مع الدّول الإفريقية، يطرح هذا المقال سؤالا جوهريا: هل يكفي ميراث الماضي لسياسة الجزائر الإفريقية الحالية، أم يجب تكييفه لبناء رؤية إستراتجية للمستقبل؟
1-عقيدة السياسة الجزائرية في إفريقيا: تصفية الاستعمار وتقرير الشعوب مصيرها
ترجع أسس السياسة الجزائرية تجاه إفريقيا إلى ما قبل الاستقلال سنة 1962؛ فهي ترجمة للكفاح السياسي والعسكري الذي انتهجته الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي. فميراث الثورة شكل المرجعية الرئيسة للسياسة الخارجية الجزائرية الناشئة، ومثلت دبلوماسية جبهة التحرير الوطني إطارا مناسبا لصانع السياسة الخارجية الجزائرية ما بعد الاستقلال 1 لقد رسم برنامج طرابلس (جوان1962) المبادئ العامة التي يجب أن تحكم السياسة الخارجية الجزائرية وخاصة نحو كتلة العالم الثالث، والتي تلخصت في: دعم حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، التسوية السلمية للنزاعات، الكفاح ضد الامبريالية، ومساندة الحركات التحررية في العالم. فكانت تلك المبادئ بمثابة عقيدة السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا. ولم يكن ذلك بالضرورة انعكاسا للإيديولوجية اليسارية، ولكنه كان شكلا من أشكال التعبير الذي استعملته النخبة الوطنية الثورية بعد الاستقلال للتعبير عن رفضها الشديد للنظام الاستعماري الامبريالي 2.
لقد ارتبطت السياسة الإفريقية للجزائر بعد الاستقلال بالتوجه الثوري للنخبة الحاكمة حينئذ في صورة الرئيسين أحمد بن بلة وهواري بومدين اللذان أرادا للجزائر أن تضطلع بدور ” قلعة الثوار” 3. فأصبحت السياسة الخارجية الجزائرية في إفريقيا ملزمة على نطاق واسع بالوقوف ضد الاستعمار، الاستعمار الجديد والإمبريالية طيلة فترة الحرب الباردة، وإن بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة طبقا لتغير الظروف الداخلية والدولية. ففي عهد أحمد بن بلة، التأثير الجزائري في إفريقيا كان سياسيا أكثر، ولهذا صارت الجزائر عاصمة حركات التحرر الإفريقية من أجل الدعم المادي والتدريب العسكري. أما مرحلة هواري بومدين، فشهدت السياسة الإفريقية للجزائر توسعا في الاهتمام نحو القضايا الاقتصادية والتنموية بالدعوة إلى نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر عدلا في إطار حركة عدم الانحياز.
2- دور ومكانة الجزائر في إفريقيا: من “قلعة للثوار” إلى انكفاء تدريجي
كانت إفريقيا ميدان مناسبا لنشاط دبلوماسي مكثف يتناسب وعقيدة السياسة الخارجية الجزائرية؛ أي وفق مبادئ التضامن السياسي في إطار كفاح الدول الإفريقية من أجل التحرر، ومحاربة التمييز العنصري والامبريالية. فالجزائر اكتسبت بفضل نضالها التحرري شرعية تاريخية سمحت لها بأن تضطلع بمكانة قيادية على الساحة الإفريقية وفق ما عكسته مقولة الزعيم الإفريقي أميلكار كابرال الشهيرة “إذا كانت مكة قبلة المسلمين، والفاتيكان قبلة المسيحيين، فإن الجزائر تبقى قبلة الثوار والأحرار” 4
على أساس من ذلك، كان هدف محاربة الاستعمار من أولويات القادة في الجزائر فيما يتعلق بالسياسة الإفريقية. فعملت الجزائر على تصفية القارة الإفريقية من الاستعمار باعتماد الوسائل الدبلوماسية. فكانت المنظمات الدولية فضاء مناسبا لتجنيد الطاقات الدولية لتدعيم الكفاح المسلح لوضع نهاية للتواجد الاستعماري في القارة، عبر تدعيم حركات التحرر الإفريقية، تدويل قضاياها العادلة، واستصدار لوائح للتنديد بالاستعمار الأوروبي وممارسات العنصرية في ناميبيا، جنوب إفريقيا وزيمبابوي، إضافة إلى المساهمة في جعل القانون الدولي يعترف لحركات التحرر الوطنية التحررية الإفريقية بتمتعها بشخصية قانونية دولية تتمتع بالحقوق وتنسجم أنشطتها مع قواعد القانون الدولي5
وإضافة إلى الجهود الدبلوماسية، تم دعم حركات التحرر ماديا وعسكريا أيضا، فقد اعترف الرئيس بن بلة نفسه بمناسبة “يوم إفريقيا” في الجزائر سنة 1963 بأن الجزائر قد وفرت ظروف الإقامة المناسبة لاحتضان مكاتب لحركات التحرر الإفريقية، ودربت 1000 مقاتل من مقاتليها على أراضيها. كما قدمت الجزائر دعمها لحركات المعارضة المنتمية لأقصى اليسار في دول كالكاميرون، النيجر، تشاد، الزايير؛ لأنها كانت تدرك الأنظمة المحافظة في تلك الدول كأيادي تخدم القوى الاستعمارية لا شعوبها 6. وعلى هذا الأساس، كانت الدبلوماسية الجزائرية تعتمد على مبدأ اختيار الحركات الأكثر تمثيلا وشعبية كالحزب الإفريقي من أجل استقلال غينيا بيساو والرأس الأخضر، وجبهة تحرير موزمبيقFRELIMO ، والجبهة الشعبية لتحرير أنغولا، والإتحاد الشعبي الإفريقي لزمبابوي ZAPU ، والإتحاد الوطني الإفريقي لزيمبابوي ZANU ، والمنظمة الشعبية لجنوب غرب إفريقيا SWAPO ، إضافة إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ANC في جنوب إفريقيا، وحركة تحرير ساوتومي وبرانسيب7. كما ألقت الجزائر يثقلها الإفريقي لتساهم في المصالحة بين غينيا والسنغال، وتؤثر في بناء موقف أفريقي موحد تجاه الأزمة في نيجيريا، و كذا أزمة الصحراء الغربية منذ 1975.
عرف الدور الدبلوماسي للجزائر في إفريقيا بعد ذلك بعض التراجع، بسبب الاهتمام بقضايا التنمية الاقتصادية في الداخل، وكذا الالتفات نحو الشؤون العربية في الشرق الأوسط. ليتخذ ذلك الدور لاحقا، مع بداية السبعينيات، بعدا اقتصاديا أكثر فأكثر غداة انعقاد مؤتمر حركة عدم الانحياز بالجزائر سنة 1973، إذ وظفت الجزائر دورها الريادي في القارة الإفريقية لتحصيل المطالب الاقتصادية لدول العالم الثالث؛ خاصة باستكمال استقلالها الاقتصادي واستغلال مواردها بنفسها، وإعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي 8
كان من الطبيعي أن يشهد عقد التسعينيات من القرن الماضي تراجعا للدور الجزائري في إفريقيا، إذ أن ما عرفته الجزائر من انكفاء داخلي على نفسها للتفرغ لأزمتها الدّاخلية، أثر بشكل مباشر على حضورها الدبلوماسي الخارجي عموما وفي إفريقيا خاصة. فقد تراجعت دائرة إفريقيا من حيث الأولوية في ترتيب الدوائر الإستراتيجية بالنسبة للجزائر لتصبح بعد الدائرة المتوسطية كما يظهر ذلك بوضوح في دستور 1996؛ حيث ورد في ديباجته”:إن الجزائر أرض الإسلام، وجزء لا يتجزأ من المغرب العربي وأرض عربية، وبلاد متوسطية وإفريقية” 9
نتيجة لذلك، عرفت العلاقات الجزائرية الإفريقية انكفاء كبيرا مع بداية الألفية الجديدة مقارنة بماضيها الحافل، بما أدى إلى تراجع رغبة وحتى قدرة الجزائر على التأثير في إفريقيا. ويرجح الدبلوماسي الجزائري الأسبق عبد العزيز رحابي أن أسباب ذلك تكمن في افتقاد الآليات المناسبة للتأثير؛ مثل الافتقار للأدوات الاقتصادية: البنوك والمصارف ومتعاملي الهاتف النقال والنقل الجوي مثلا. والأدوات السياسية، قلة الزيارات الرسمية -على مستوى الرئاسة- للبلدان الإفريقية منذ عهد الشاذلي الذي زار لوحده إفريقيا 32 مرة، والأدوات الثقافية، تراجع استضافة الجزائر عدد الطلبة الأفارقة الذي كانت تستقبله الجامعات الجزائرية في سنوات السبعينيات10 . كما أنّ حساسية المسائل الأمنيّة أثرت كثيرا على العلاقات بين الجزائر والكثير من الدّول الإفريقية خاصة مع مالي وتشاد في قضيّة الطّوارق و مع المغرب في قضيّة الصحراء الغربية 11
3- الدبلوماسية الأمنية ومحاولة استعادة الجزائر دورها في إفريقيا
اتسمت السياسة الخارجية الجزائرية مع بداية الألفية الجديدة ببعض ملامح البراغماتية التي ظهرت في إستراتيجية تنويع الشركاء شرقا وغربا 12 . أما جنوبا، وتحديدا تجاه إفريقيا، فكان واضحا أن الرصيد التاريخي الدبلوماسية الجزائرية في إفريقيا لا يزال هو الرأسمال الرمزي الأكبر الذي تحاول الجزائر استثماره في بناء علاقاتها مع الدول الإفريقية وتوسيع نفوذها ونشاطها الاقتصادي والدبلوماسي في القارة 13
أرادت الجزائر استعادة بريق سياستها الإفريقية التي عرفتها في الستينيات والسبعينيات، بهدف استعادة مكانة وثقل الجزائر في عالم الجنوب. لقد أعطت الدبلوماسية الجزائرية أهمية خاصة للقمة السنوية لمنظمة الوحدة الإفريقية سنة 1999 التي استضافتها، ونجحت في إقناع 45 رئيس دولة وحكومة بالحضور للقمة من مجموع 53 رئيس دولة إفريقية. ويظهر حجم الاهتمام الجزائري بإفريقيا من جديد، من خلال استحداث ولأول مرة منذ الاستقلال منصب وزاري للشؤون الإفريقية. استهدفت الجزائر بعث دورها في إفريقيا من جديد، من خلال محورين؛ الأول مكافحة الإرهاب والثاني الاهتمام بالتحديات التنموية التي تواجهها القارة. ففي الأول استطاعت الجزائر لفت اهتمام الدول الإفريقية بالظاهرة الإرهابية، وتمكنت من إقناع الدول الإفريقية بالتعاون لمكافحة الإرهاب، أين ساهمت في إعداد مشروع “الاتفاقية الإفريقية لمكافحة الإرهاب” الذي صادق عليه وزراء عدل الدول الإفريقية بالإجماع. أما في الثاني، فقد تجلى التركيز على الجانب التنموي من خلال دور الجزائر المحوري في تأسيس مبادرة النيباد مضمن محور جنوب افريقيا، نيجيريا، الجزائر.
لكن أكثر ما ميز السياسة الإفريقية الجزائرية في المرحلة الجديدة؛ منذ عقدين تقريبا، هو هيمنة المقاربة الأمنية على حساب المقاربة الاقتصادية. فالاهتمام الجزائري بعمقها الإفريقي بدأ يأخذ أبعادا أمنية أكثر فأكثر وخاصة في أعقاب أحداث سبتمبر 2001 وإعلان الحرب العالمية على الإرهاب الدولي، الذي وجد في منطقة الساحل الإفريقي ملاذا لنشاطاته، فضلا عن تفاقم النزاع في مالي والنيجر بسبب المطالب الانفصالية للطوارق، والذي حتم على الجزائر التحرك الدبلوماسي لإدارة النزاع ودرء أي احتمالات لتعرضها لتداعياته. إن إدراك الجزائر لأهمية الدائرة الساحلية الصحراوية لأمنها القومي فرض عليها لعب دور ريادي في المبادرات الأمنية الإفريقية سواء في مجلس السلم والأمن في إفريقيا أو الاتفاقية الإفريقية لمكافحة الإرهاب.14 والحقيقة أن الجزائر في اضطلاعها بهذا الدور لا تزال تملك من المقومات الدبلوماسية ما يسمح لها بالتأثير في القارة:
أ- النفوذ على مستوى الهياكل الأمنية للاتحاد الإفريقي، بما يساعدها على المساهمة الفاعلة في تصميم الإطار الذي يدير الاتحاد الأفريقي من خلاله السلم والأمن في القارة. ولقد كان الدبلوماسي الجزائري سعيد جنيت، أول مفوّض لدائرة السلم والأمن (2002-2008) وبعده رمطان لعمامرة (2013-2008).وتعد هذه الدائرة الأكثر حيوية في الاتحاد الأفريقي، ويتولّى المفوّض صلاحيات هامة، كتمثيل الدائرة في الشأن العام ووضع جدول أعمال اجتماعات السفراء في مجلس السلم والأمن لتقويم النزاعات والأزمات الدائرة في القارة الأفريقية.15
ب – تمسك الجزائر بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وتفضيل الحلول السلمية للأزمات، وهذا ما يجعلها تلقى قبولا واسعا لدى الأطراف المتنازعة كوسيط مقبول في المفاوضات لتسوية النزاعات في إفريقيا، وقد أثبتت الدبلوماسية الجزائرية نجاعتها في المفاوضات لحل النزاع بين إثيوبيا وإريتيريا، وبين الطوارق والحكومة المالية.
ج- الدور الفاعل للجزائر في تطبيق خطة عمل الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب ومحاربته، عبر استضافتها المركز الإفريقي للدراسات والبحوث حول الإرهاب CAERT، الذي يسعى إلى توجيه جهود مكافحة الإرهاب وتنسيقها في مختلف أنحاء أفريقيا، وكذا جهودها الهادفة إلى تعزيز لواء الاحتياط الشمالي التابع لقوة الاحتياط الأفريقية، أي الذراع التنفيذي لمجلس السلم والأمن المعني بالتدخّل السريع فضلاً عن دعم السلام والعمليات الإنسانية.16
د- تملك الجزائر، بمعزل عن الهندسة الأفريقية للسلم والأمن، مبادراتها الخاصة في مجال التعاون الأمني بين دول منطقة الساحل، مثل القيادة الإقليمية للعمليات المشتركة لمكافحة الإرهاب ومقرّها تمنراست في جنوب الجزائر، تضم كلا من مالي النيجر وموريتانيا، ووضعت هذه الإستراتيجية كهدف لها التنسيق فيما بين هذه الدول الأربعة لمواجهة التحديات الأمنية التي تواجه المنطقة خاصة الإرهاب عبر الوطني، مع ربطها بالتنمية كشرط مسبق للأمن في هذا الفضاء.
4- دبلوماسية الجزائر الاقتصادية في إفريقيا: استدراك متأخر
على الرغم من اعتبارها من أقوى الاقتصاديات في القارة بحكم تنوع مواردها الاقتصادية، وتقدمها النسبي في المجال الصناعي، إلا أن منهج الجزائر الاقتصادي الحذر والمتدرّج في مسألة الانفتاح على السّوق والاستثمار الخارجي، جعل حضورها الاقتصادي في إفريقيا ضعيفا مقارنة بدول إفريقية كبرى أو حتى من خارج القارة ؛ إذ تشير الإحصائيات إلى ضآلة وضعف التبادل الاقتصادي الجزائري-الإفريقي، حيث لا تمثل مبادلات الجزائر مع دول القارة الإفريقية سوى 1.5% من مجموع المبادلات التجارية 17
اقتصاديا، لطالما كانت الإستراتيجية الجزائرية تجاه إفريقيا محكومة بما أسماه مراد قوميري (رئيس جمعية الجامعيين الجزائريين لترقية دراسات الأمن الوطني)، بسياسة توزيع جزء من الريع الذي يظل موردا غير مستقر، ولهذا فهي لم تستغل الفرصة الممنوحة لها عبر التراكم الرأسمالي بفضل ارتفاع أسعار النفط لأخذ مواقع جديدة في اقتصاديات البلدان الإفريقية18 .لقد أدركت الجزائر متأخرة أهمية الحضور الاقتصادي في القارة الإفريقية؛ حيث أظهرت بعض من قضايا القارة السياسة والأمنية -كقضية الصحراء الغربية- أن أدوات النفوذ التقليدية التي تملكها الجزائر خاصة الأمنية منها والدبلوماسية، فضلا عن الرمزية التاريخية لم تعد كافية لتحقيق المصالح الوطنية في القارة.
في مارس 2013 أقدمت الجزائر على إلغاء مديونية تقدر ب902 مليون دولار لـ14 بلد عضو في الاتحاد الإفريقي، فيما وصفها عمار بلاني الناطق باسم وزارة الشؤون الخارجية آنذاك في بيان له بأنها: “هذه الالتفاتة الملموسة تدخل ضمن إطار التعاون الإفريقي، وهي تعبر عن الإرادة السياسية للحكومة الجزائرية في الاضطلاع كليًا بالتزامها لصالح التنمية الاقتصادية والاجتماعية للقارة“19 . غير أن رغبة الجزائر في استخدام الوسائل الاقتصادية في سياستها الإفريقية لم تأت فقط متأخرة، ولكنها جاءت أيضا مرتبطة بأزمة التنمية الداخلية بسبب انخفاض أسعار النفط ، الذي جعل الحكومة تقتنع بضرورة تنويع الاقتصاد وتقليص التبعية للمحروقات.
في الواقع، فإن إن أي خطة للتنويع الاقتصادي لا بد أن تستغل ما تقدمه القارة السمراء من فرص اقتصادية، وخاصة من خلال الاستثمار في القارة في أسواق تجارية ناشئة بدول الساحل ووسط إفريقيا20. ولأجل تدارك تأخرها الاقتصادي، يبدو أن الجزائر قد فكرت فعلا في وضع القواعد الأساسية لتعزيز موقعها الاستثماري بالقارة السمراء وكذا تموقع شركاتها عبر عدة خطوات ومشاريع اقتصادية21.
أ- بناء ميناء شرشال التجاري (70 كلم غرب العاصمة الجزائرية). والذي يتوقع له أن يساعد البلدان الإفريقية التي لا تملك موارد لإنجاز بناها التحتية، من خلال فتح أروقة لها من أل نقل البضائع وتنظيم مناطق الموانئ الخاصة للحمولات الكبرى والقواعد اللوجيستية؛
ب- مشروع الطريق العابر للصحراء بين الجزائر ولاغوس الممتد على امتداد 9400 كم، كأحد أهم مشاريع البنى التحتية التي تعول الجزائر عليها في مسعى ربط الاقتصاديات الإفريقية بالاقتصاد الجزائري، وهو المشروع الذي يجسد التكامل الإفريقي بربطه بين سبعة دول افريقية هي الجزائر، مالي، تونس، تشاد، نيجيريا، بوركينافاسو والنيجر؛
ج- مشروع أنبوب غاز غرب أفريقيا “نيغال” على امتداد 4128 كم، والذي تم الإعلان عنه سنة 2002، و يمتد من نيجيريا إلى الجزائر مرورا بالعديد من دول غرب أفريقيا ومنها سينقل الغاز إلى أوروبا، ويتوقع أن تصل تكلفته الإجمالية حدود ال 20 مليار دولار، وينتظر أن ينقل 28 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا؛
د-المساهمة في تحقيق الاندماج الاقتصادي الإفريقي، من خلال التقرب من السوق المشتركة لأفريقيا الشرقية، الغربية والجنوبية، مع إمكانية فتح منطقة حرة للتبادل التجاري . وتساهم في هذه الاستراتيجية شركات جزائرية رائدة في مجالاتها؛
ه- تنظيم النسخة الأولى من الملتقى الإفريقي للاستثمار والأعمال المنظم في ديسمبر2016، بهدف فتح مفاوضات رسمية لنقل استثمارات جزائرية لشركات عمومية مثل سونلغاز، اتصالات الجزائر، الخطوط الجوية الجزائرية للدول الإفريقية، إضافة إلى استثمارات عملاق النفط الجزائري “سوناطراك” الذي تتواجد استثماراته في كل من النيجر، تشاد، موزمبيق، ليبيا وزمبابوي.
يعتبر الخبراء الاقتصاديون الجزائريون أن الخطوات التي قامت بها الحكومة الجزائرية لتعزيز التواجد الاقتصادي في إفريقيا جاءت متأخرة، كون الواقع المالي الذي يعيشه الاقتصاد الوطني لا يسمح بأية خطوات حقيقية تضمن استثمارات حقيقية ومشاريع ضخمة وليس مجرد تبادل للسلع، وهذا ما يعتقد الخبير كمال ديب بأنه يحتاج لميزانيات ضخمة لن تستطيع الخزينة العمومية تغطيتها ولا البنوك والمؤسسات المالية. أما الخبير فارس مسدور فينتقد خيار الاتجاه إلى الصناديق الإفريقية لتمويل المشاريع الاقتصادية داعيا إلى ضرورة إقامة شراكات مع الصناديق الإفريقية للدخول كمستثمر وليس كمقترض22. وإذا كانت المساعدات الحكومية المباشرة تتجه نحو الانخفاض، فإن استثمار القطاع الخاص الجزائري في البلدان الإفريقية مقيد بتعقيدات تصدير العملة إلى الخارج، بحيث تبقى رهينة ترخيص من بنك الجزائر ما يحول دون وصولها المرن إلى الأسواق الإفريقية 23 .
خاتمة
تبعث السياسة الإفريقية للجزائر بعد انحسار الأزمة الداخلية على ملاحظة تراجع في المكاسب الدبلوماسية التاريخية للجزائر في القارة، ويظهر ذلك في صورة التعامل مع الأحداث الاقليمية والقارية حالة بحالة دون رؤية استراتيجية متكاملة كما في السابق، أين أصبحت الجزائر تكتفي برد الفعل بدل المبادرة بالفعل، ما افقد الدبلوماسية الجزائرية حضورها التقليدي الوازن وسمعتها القارية كقلعة للثوار. إن ذلك هو ما لا يعكس في حقيقة الأمر الثقل الاستراتيجي للبلد، الذي يفترض أن يؤهل الجزائر للاضطلاع بدور أكبر وحضور فاعل.
فرغم ما يعرفه المحيط الجيوسياسي للجزائر سواء المغاربي أو الساحلي الصحراوي في الوقت الراهن، إلا أن الجزائر لا تزال تصر على إدارة كل هذه التحولات والأزمات بنفس العقيدة والمبادئ التي أفرزتها الثورة الجزائرية بداية الستينات؛ أي برأسمالها الرمزي الذي يستمر في التآكل، فالأدوات القديمة لدبلوماسيتنا التي ترتكز على إرث بريق حرب التحرير والمساعدات المباشرة يبدو أنها قد وهنت.
إن الجزائر تواجه اليوم لحظة مفصلية فيما يخص سياستها الإفريقية، وعليها أن تحاول التوفيق بين ميراث سياستها الخارجية ومصالحها. والتحولات المتسارعة في القارة تفرض مزيدا من التحدي على عقيدة السياسة الخارجية الجزائرية ومبادئها الثابتة منذ 1962، بوضعها المقاربة الجزائرية القائمة على اعتماد وسائل التأثير التقليدية الدبلوماسية والرمزية أساسا في تصادم مع أهمية الدبلوماسية الاقتصادية. فلا بد من أن يدرك صناع القرار في الجزائر بأن إستراتيجية حاضرة ومستقبلية تجاه إفريقيا يجب أن تكون غير منفصلة ولكن غير مرتبطة كليا بالتاريخ؛ أي فترة التوهج الدبلوماسي في القارة عقب الاستقلال
مع التسليم بحق الجزائر المستمر في الدفاع عن أهداف السيادة و الأمن والاستقرار كأهداف للأمن القومي، فإن الذي يبعث على الريبة في فعالية السياسة الإفريقية للجزائر ،هو أن تحقيق أهداف المصلحة الوطنية في مسائل الأمن، لا يجب أن يكون على حساب الأهداف الاقتصادية في الاستثمار والتصدير لضمان الأسواق الإفريقية المرتبطة جغرافيا بالجزائر كبوابة اقتصادية للقارة. ما يدفع لضرورة تكييف المبادئ الثابتة للسياسة الخارجية الجزائرية في عدم التدخل مع المصالح العليا للبلد في عالم متغير، فالجزائر بالنظر لوزنها الجيواستراتيجي في القارة ينتظر منها أن تكون دولة مبادرة، مؤثرة وضابطة للتحولات في عمقها الإفريقي ليس فقط أمنيا، ولكن سياسيا واقتصاديا أيضا.