تعتبر منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية، فرصة كبيرة للأفارقة للنجاة من طوق الازمات الاقتصادية والسياسية، والتبعية للخارج، لكن من جهة أخرى تقف أمامها تحديات وعقبات كبيرة داخلية وخارجية، مما يستلزم توفر جهود صادقة والتزام كبير لنجاح العملية، وضرورة التنسيق بين الدول الكبرى في القارة، وبين التجمعات الإقليمية، و نجاح المنطقة الحرة مرتبط بعوامل داخلية و خارجية، ومشاريع وخطط هي من ضمن أولويات الاتحاد الافريقي، مثل مكافحة الفساد والترسيخ الديمقراطي والتحول الاقتصادي نحو التصنيع، وإسكات الأسلحة في جهات القارة المختلفة والاستقرار السياسي، إضافة إلى القيام بعدد من الإجراءات ذات الطبيعة التجارية، مثل تحديد قواعد المنشأ بطريقة سهلة وشفافة، وتحديد ما هو المنتج الذي يحمل فعلا شعار “صنع في أفريقيا”، وتوحيد العملة مستقبلا، وحل مشكلة الرسوم الجمركية والحواجز غير الجمركية. يتضح أن المؤشرات التي تقف إلى جانب نجاح منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية أقل من المؤشرات التي تقف ضدها، لكن تكلفة الفشل ستكون أيضا كبيرة خاصة وأن هذا المشروع الاقتصادي حلقة ضمن مشروع كبير (أجندة 2063) يسعى الأفارقة إلى تحقيقه.
الدكتور مصطفى خواص
أستاذ العلوم السياسية، المدرسة العليا للعلوم السياسية (الجزائر)
مدير مخبر بحث الدراسات الافريقية.
لطالما عرفت أفريقيا بظواهر الفقر والنزاعات والتخلف الاقتصادي، وهذه حقيقة لا جدال فيها إذ تضم إفريقيا أكثر البلدان فقرا في العالم، ولكن في نفس الوقت تعتبر من أفضل وأغنى المناطق أيضا، مما يدل على أن هناك سوء إدارة للموارد الافريقية من طرف الأفارقة أنفسهم، ومنه سعى الأباء المؤسسون لمنظمة الوحدة الافريقية للخروج من هذه الازمات المركبة، لكن ليس بصفة فردية بل بصفة جماعية، ولذلك اجتهدوا في خطط اقتصادية وسياسية واجتماعية من أجل ذلك.
إن منظمة الوحدة الافريقية (1963) ثم الاتحاد الافريقي (2000) سعو من أجل دعم العمل الافريقي المشترك، ثم التكامل والاندماج الافريقي، في اطار تحقيق هذا المسعى وخاصة على المستوى الاقتصادي تم القيام بجملة من الخطوات والاتفاقيات بداية من “استراتيجية مونروفيا” (1979)، ثم تلتها “خطة عمل لاجوس” (1980)، ثم “معاهدة أبوجا” (1991)، التي أسست للجماعة الاقتصادية الافريقية، وقدمت دعما كبير نحو تأسيس مجموعات اقتصادية إقليمية (RECs)، وأصبحت هناك ثمان مجموعات اقتصادية إقليمية معترف بها من طرف الاتحاد الافريقي،1 ثم جاءت الدورة الثامنة عشر للاتحاد الافريقي (يناير2012) أين تقرر إنشاء “منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية” ( AfCFTA) في عام2017، وفي عام 2015 تم تأسيس منطقة التجارة الحرة الثلاثية (TFTA)، بين ثلاث مجموعات اقتصادية في شرق وشمال شرق وجنوب القارة، ثم في عام 2018 التوقيع على اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية في كيغالي عاصمة روندا عام 2018، والتي تعتبر أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، ضمنت كل البلدان الافريقية (54) باستثناء إريتريا، وفي دورة الاتحاد الافريقي في جوهانسبورغ ديسمبر 2020، تقرر أن الاتفاقية ستدخل حيز النفاذ في بداية الأول يناير 2021، بعد أن تأخر انطلاقها لحوالي عام، بسبب تداعيات فيروس كورونا.
إن مسار عقود من محاولات الاندماج والتكامل الاقتصادي، يؤكد على أن هناك إصرار إفريقي كبير على بناء سوق موحدة، ورفع مستوى التبادل داخل السوق الافريقي، وأن هناك جهود تبذل في هذا الاتجاه، خاصة وأن الاندماج الاقتصادي يأتي في إطار خطة أكبر، سياسية واجتماعية وثقافية وضعها الأفارقة. وفي إطار هذه الخطة يبقى مشروع “منطقة التجارة الحرة القارية” من أهم اللبنات التي ستدفع المسار الافريقي نحو الامام أو تقوضه، كما أن لهذا المشروع فرص للنجاح فإنها تعترضه أيضا تحديات كبرى، سواء بسبب البيئة الداخلية لكل دولة أفريقية أو بسبب عدم الانسجام الإقليمي بين الاقتصادات المختلفة، وهذا إلى جانب المنافسة والقوى الدولية المستفيدة من بقاء البلدان الافريقية مفككة.
منطقة التجارة الحرة القارية الواقع والأهداف
جاءت منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية بعد زخم إفريقي كبير متعلق بالمناطق الحرة والمجموعات الإقليمية الاقتصادية، حيث بدأت إفريقيا تعرف هذه المحاولات مع بداية القرن الماضي، ووصلت حاليا للاستقرار عند حوالي خمسة عشر (15) مجموعة اقتصادية كبرى، لكن منطقة التجارة الحرة القارية تعتبر أكبرها على الاطلاق، لا بل هي أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، حيث تضم (54) دولة أفريقية من بين (55) دولة (إريتريا فقط لم تنضم). إلى غاية الخامس من فيفري 2021، كانت هناك 36 دولة وقعت وصادقت على الاتفاقية، أي أكثر من 66% من البلدان الافريقية.2
تعتبر افريقيا حاليا من المناطق التي تحقق أدنى تبادل تجاري داخلي مقارنة بالمناطق الأخرى، حيث لا تتجاوز 20%، ولذلك جاءت منطقة التجارة الحرة القارية لمعالجة هذا الخلل الكبير، ولكن هدفها ليس رفع التبادل التجاري فقط، بل تسعى إلى الوصول للاندماج الاقتصادي عبر المدخل التجاري، وهي فكرة مطبقة في الكثير من مناطق العالم.
لكن لماذا منطقة التجارة الحرة القارية إذا كانت هناك مجموعات اقتصادية، وتجمعات تجارية مختلفة، يظهر أن الهدف جليا أن هدف هذا المشروع هو تجاوز هذه المجموعات الاقتصادية الإقليمية، والعمل على جعل إفريقيا سوقا موحدة، باعتبار أن هذه المجموعات كانت في الأساس خطوة تمهيدية للغاية الأساسية وهي التوحيد الاقتصادي الكامل للقارة الافريقية، خاصة وأنه رغم وجود هذه المجموعات إلا حجم التبادل بين الأفارقة لم يتجاوز 20%، وهذا رقم ضئيل جدا مقارنة مع باقي مناطق العالم، وكذلك رغم أن بعض المجموعات الاقتصادية ناجحة، إلا إن بعضها مزال بعيدا عن تحقيق أي تعاون إقليمي، كما أنها تركز بدرجة كبيرة على الاندماج الاقتصادي الإقليمي الضيق، ولا تلتفت إلى باقي مناطق القارة، مما جعل نسبة التبادل تبقى ضعيفة، لذا لو يقتصر الامر على المجموعات الاقتصادية الإقليمية فإن اندماج السوق الافريقي مستحيل أن يحدث في المدى القريب أو المتوسط.3
جاءت منطقة التجارة الحرة القارية بجملة من الأهداف الطموحة، منها: 1)إنشاء سوق موحدة للسلع والخدمات، وتحقيق حلم “أفريقيا متكاملة ومزدهرة وسلمية” الوارد في جدول أعمال أجندة 2063، 2)إنشاء سوق حرة للسلع والخدمات، 3) المساهمة في حركة رؤوس الأموال والأشخاص الطبيعيين وتسهيل الاستثمارات استنادا إلى المبادرات والتطورات في الدول الأطراف والجماعات الاقتصادية الإقليمية، 4) وضع الأساس لإنشاء اتحاد جمركي قاري مستقبلا، 5) تعزيز وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة والشاملة للجميع، والمساواة بين الجنسين والتحول الهيكلي في الدول الأطراف، 6) تعزيز القدرة التنافسية لاقتصادات الدول الافريقية، داخل القارة وفي السوق العالمية، 7) تشجيع التنمية الصناعية من خلال التنويع وتطوير سلاسل القيم الاقليمية والتنمية الزراعية والأمن الغذائي، 8) حل التحديات المتمثلة في تعدد وتداخل العضوية والتعجيل بعمليات التكامل الإقليمي والقاري.4
يتألف الإطار المؤسسي لمنطقة التجارة الحرة القارية الافريقية من 1) المؤتمر والذي يضم رؤساء الدول، الهيئة الأعلى في المنظمة، ويرجع إليها التوجيه الاستراتيجي وتفسير بنود الاتفاقية التي تحكم المنظمة 2) مجلس الوزراء، وزراء التجارة في الاغلب، وهي الهيئة الأهم التي تعرض كل المشاكل وتسعى إلى حلها، وترسم خطة سير المنظمة 3) لجنة كبار المكلفين المسؤولين للتجارة، لها دور تنفذي، تطبق ما تم الاتفاق عليه في مجلس الوزراء وتوجه الأمانة العامة في التنفيذ، 4) الأمانة، والتي تسهر على العمل الإداري اليومي. 5) جهاز تسوية النزاعات، الذي يقوم بالفصل بين الدول في حالة نشوب نزاع حول الواجبات والحقوق التي تنتج عن الاتفاق المؤسس لمنطقة التجارة الحرة. 5
أسست منطقة التجارة الحرة القارية “آلية للإبلاغ على الحواجز غير الجمركية“، وهي منصة إلكترونية (https://tradebarriers.africa) تتلقى الشكاوى بصفة آنية، وتنحصر مهامها في الإبلاغ عن الحواجز غير الجمركية، ورصدها ومعالجتها وتسويتها، وإزالتها في النهاية.6 كذلك تم إنشاء “مرصد التجارة الافريقي” ويهدف إنشاء بوابة معلومات تجارية على نطاق القارة لتيسير التجارة فيما بين البلدان الأفريقية، ودعم بدء العمل في برنامج التجارة في أفريقيا. وسوف يسعى إلى جمع البيانات المتعلقة بالتجارة من الدول الأعضاء وتوفير المعلومات التجارية لكل الفاعلين في السوق وللوكالات الحكومية وغير الحكومية. وسوف يشمل هذا النظام أيضا مؤشرات تجارة الخدمات، وسعر الصرف والقدرة التنافسية، وبيانات الضرائب الداخلية، وبيانات الاستثمار الأجنبي المباشر.7
تتحدد الأدوات العملية لمنطقة التجارة الحرة في خمس أدوات، تتمثل في نظام قواعد المنشأ، ونظام الامتيازات التعريفية، إضافة إلى ألية الإبلاغ على الحواجز غير الجمركية ومرصد التجارة الافريقي، وتم كذلك إحداث نظام الدفع والتسوية لعموم إفريقيا (PAPSS)، والذي يسهل عمليات الدفع بالعملة المحلية في حالة الاستيراد من باقي بلدان أفريقيا.8
شروط أولية لنجاح منطقة التجارة الحرة الافريقية.
يتوقع أن تنتشل منطقة التجارة الحرة القارية، إلى غاية 2035 أكثر من 30 مليون شخص من الفقر المدقع (أقل من 2 دولار في اليوم)، وحوالي 68 مليون من الفقر المعتدل (أقل 5,5 دولار في اليوم)، كما سيزداد حجم الصادرات الإجمالية بنسبة 29% تقريبا بحلول عام 2035. وستزيد الصادرات داخل القارة بأكثر من 81%، بينما سترتفع الصادرات إلى البلدان غير الأفريقية بنسبة 19٪. كما ان صادرات التصنيع سوف تكسب أكثر 62%، في الإجمال، مع زيادة التجارة داخل أفريقيا بنسبة%110 ، سيكون مجموع نمو القارة أكبر بنحو$212 بليون دولار أكثر. وسيزيد الناتج في الخدمات (1.7 في المائة)، حيث يشهد التصنيع ارتفاعا بنسبة 1.2 في المائة. غير أن الناتج في الزراعة سوف ينكمش 0.5 في المائة على المستوى القاري. وبالأرقام المطلقة، سيتحقق معظم المكاسب من جانب قطاع الخدمات (147) مليار دولار أمريكي، مع تحقيق مكاسب أقل في مجال الصناعة التحويلية (56) مليار دولار أمريكي.9
إن نجاح المناطق التجارية الحرة مرتبط كثيرا بتعظيم عدد الرابحين وتراجع أو انحصار عدد الخاسرين، خاصة من أصحاب الاقتصادات الكبرى، حيث يرجح أن الفوائد بين البلدان الافريقية لن تكون متساوية، بعض الاقتصادات التي لها قدرة تصنيعية وتنافسية جيدة ستحوز على الحصة الأكبر من الفوائد، حاليا سبع دول تحوز على 60%، من التجارة البينية. ومؤكد أن الوضع سيتضاعف بعد انطلاق منطقة التجارة الحرة، وهذا يدفع. إلى ضرورة إيجاد صندوق أو آلية معينة لدعم بعض البلدان الافريقية، والتي حتما ستتعرض اقتصاداتها لضغط كبير، وعائداتها الضريبية للاستنزاف.10
إن الاختلاف في الاستفادة من منطقة التجارة الحرة لا يكون بين الدول فقط، بل أيضا بين المجموعات الاقتصادية أيضا، حيث هناك مجموعات اقتصادية يظهر أنها ستستفيد بقوة من منطقة التجارة الحرة القارية مقارنة مع أخرى، ومن أكبر المستفيدين المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (ECOWAS).11وفي مقابل هذا هناك مجموعات اقتصادية التبادل بينها ضعيف جدا، ولا يظهر أن المنطقة التجارية الحرة ستغير من هذا الحال في تجمع مثل اتحاد المغرب العربي، لكنها تدفع الاندماج بقوة في غرب وشرق ووسط إفريقيا. هذا الاختلاف في الاندماج الإقليمي قد يتحول من عامل مساعد إلى عامل معرقل، حيث تكتفي بعض التجمعات الإقليمية بنفسها، خاصة أن هناك اختلافات جوهرية بين التجمعات الاقتصادية المختلفة ليس اقتصاديا فقط، بل سياسيا واجتماعيا مما يرجح حتى الاتجاه نحو اندماج سياسي واقتصادي واجتماعي إقليمي بدل من الاندماج القاري. خاصة وأن قارات العالم المختلفة لا تعطينا نماذج ناجحة قاريا، بل إقليما فقط.
إن مشروع الوحد ة الاقتصادية الذي تسعى له أفريقيا يمر عبر منطقة تجارة حرة، يليها اتحاد جمركي، ثم. سوق مشتركة، فتكامل ووحدة اقتصادية، إذن إفريقيا الآن في بداية الطريق، ويلزمها الكثير من التصميم والالتزام، لكن الجيد أنها تعي خط السير، ولذلك في صلب هذه الاتفاق جاء الاتحاد الجمركي كهدف يستوجب التحقيق.
يعد الالتزام السياسي للقيادة السياسية أمر ضروري لنجاح هذا المشروع، ومن بين أهم الواجبات على السياسيين هو جعل قوانين وعضويات بلدانهم متناغمة، حيث تعاني البلدان الافريقية من تعدد القوانين الناظمة للاقتصاد والتجارة خاصة، وهذا على المستوى الوطني، والإقليمي، والذي يضاف إليه تعدد المنظمات الاقتصادية التي تنتمي إليها هذه الدول، مما يجعل العمل على مواءمة كل هذه القوانين أمر صعب لكن ضروري من أجل مستقبل التنمية في افريقيا، وهذا يقع على عاتق القيادات السياسية في أفريقيا.12
تطفو مسألة استقلالية منطقة التجارة الحرة القارية عند الحديث عن القيادة السياسية، والتي وإن كانت مطالبة بالعمل على تطابق القوانين والسياسات والالتزامات الوطنية والقارية، فهي مطالبة أيضا بالعمل على منح استقلالية كاملة للهيئة المسيرة لمنطقة التجارة الحرة القارية، خاصة أنها تأتي تحت مظلة الاتحاد الافريقي، وتعمل بنفس المنهجية وهذا قد يخلق لها صعوبة وعدم مرونة، خاصة في اتخاذ القرار، الذي يهمين عليه البعد السياسي ومؤتمر رؤساء الدول عادة، مما قد يعيق تطور المنظمة بشكل إيجابي، وقد يحرمها المصداقية وهي أمر ضروري في مثل هذه المشاريع، لذلك مزيج من السياسيين والتكنوقراط في منظومة تسيير هذه المنظمات قد يكون أفضل من إعطاء الهيمنة الكاملة للسياسيين الذين قد تتبدل أرائهم بسبب ظروف محلية بحتة، وعلاقات القوة داخل بلدانهم.14
التجمعات الاقتصادية والتجارية في القارة الافريقية.
source : Lisandro Abrego, and Others, The African Continental Free Trade Area: Potential Economic Impact and Challenges, IMF Staff Discussion Note, May 2020 SDN/20/04, p. 12.
يرتبط نجاح منطقة التجارة الحرة بحدوث تحول حقيقي في اقتصاد البلدان الافريقية، وبنائها قاعدة صناعية، والتوجه خاصة نحو السلع ذات التكنولوجيا العليا، والتي غالبا ما تكون الأكثر استرادا من خارج السوق الافريقية، ومنه يجب رفع مستويات التصنيع في هذه المجالات، والا يبقى الأفارقة يقدمون لبعضهم البعض نفس المنتوجات، والتي ليس عليه طلب كبير، وتبقى حاجياتهم تلبى من قبل طرف ثالث.15
عقبات هيكلية في طريق منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية.
ينظر المتفائلون من الأفارقة أن خطة العمل التي تسير عليها منطقة التجارة الحرة ستسير بطريقة إيجابية مدفوعة بالفوائد التي ستحققها، لكن المتشائمون يرون عكس ذلك، ويشير هؤلاء أن تنفيذ هذه المشاريع يتطلب النزاهة، والابداع، والالتزام من أجل التقدم، وهذه العناصر لا تجتمع عند القادة الأفارقة، خاصة أن هذه المشاريع تقودها الحكومات، ولذلك حسب هؤلاء يجب إعادة التفكير في خطط الاندماج والتكامل الإقليمي، بحيث تصبح الشعوب هي من تقود عمليات التكامل والاندماج وليس الحكومات فقط، إن اندماج يقوده الناس سوف يتحلى بالنزاهة، وسيبدع حلوله للمشكلات التي تعترضه، والاهم التزام هؤلاء الناس هو من سيقوي ويدفع الحكومات أكثر فأكثر نحو التكامل الافريقي.15
عدم تحكم البلدان الافريقية في الكثير من المشكلات على المستوى المحلي، قد يصبح هو أهم عائق أمام التكامل الاقتصادي على المستوى الإقليمي والقاري، إذ لا يمكن للوحدات السياسية الافريقية أن تكون على كفاءة وفعالية في أدائها الإقليمي والقاري وهي تفتقد إلى هذه الكفاءة على المستوى المحلي.16
تعترض المشروع الافريقي جملة من المشكلات الحقيقة التي تضع مستقبله على المحك من مثل تفشي الفساد الاقتصادي والإداري تضخم البيروقراطية وثقلها خاصة عند الحدود، تعدد العملات النقدية الافريقية، الحمائية التي قد تصر عليها بعض البلدان، انعدام الاستقرار السياسي، مشكلة البنى التحتية وربط البلدان ببعضها البعض، وكذا عدم الاتفاق النهائي على قواعد المنشأ، وهي خطوة أساسية لتحديد كيفية التعامل مع الرسوم الجمركية. كما أن تعدد البلدان (55 بلد) قد يعقد من عملية التنسيق بين هذه البلدان، ويزيد من صعوبة المفاوضات بينها، ويؤثر في مرونة اتخاذ القرار، ويجعل النزاهة درجة الالتزام بجدول رفع الحواجز الجمركية، وغير الجمركية والتي تعتبر من العوائق الكبيرة التي تعيق التصدير أو الاستيراد بين البلدان، معروف أن الفساد وغياب الرقابة وتضخم البيروقراطية يضاعف من التدابير غير الجمركية التي تضعها الحكومات المحلية وتعمل على تعطيل أو تأخير عمليات التصدير والاستيراد.
أحد أهم الأسئلة التي ستواجه صانع القرار الافريقي هي ماذا نعني بعبارة “صنع في إفريقيا” (Made in Africa)، أي كيف تحدد قواعد المنشأ، إن تحديد جنسية المنتَج تتحكم عادة في نجاح أو إخفاق المناطق الحرة التجارية، وكذلك الحال بالنسبة للمنطقة الحرة الافريقية، إن المنتَج يجب أن يكون مصدره من بلد داخل المنطقة الحرة التجارية، ويستوفي بعض الشروط حتى يحصل على “جواز المرور” أي بدون رسوم جمركية، يوصي مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أن على قواعد المنشأ ألا تكون معقد أو باهضة التكلفة، وبسيطة وشفافة ويمكن التنبؤ بها، ومراعية كذلك للقدرات الإنتاجية والاختلالات الهيكلية بين البلدان الافريقية، ومن الاحسن انشاء منصة إلكترونية باللغات المحلية للعمل كمستودع لقواعد المنشأ، وتنظيم لقاءات لتذليل العقبات أمام تطبيق قواعد المنشأ، لأن غير ذلك قد يدفع الشركات للتعامل مع جهات من خارج القارة أو مع السوق الإقليمية مما يعني فشل الهدف الرئيسي الذي جاءت من اجلها المنطقة الحرة الافريقية وهو زيادة التبادل التجاري بين البلدان الافريقية.17
يخلق عدم التطبيق الصارم لقواعد المنشأ معضلة كبيرة، وقد يعيق عملية التصنيع في القارة الافريقية، حيث يمكن أن تنحرف التجارة عبر قيام طرف ثالث من خارج افريقيا بتوجيه صادراته إلى بلد افريقي ما له أقل حواجز جمركية مع الخارج، وعن طريقه يصل إلى السوق الافريقية كاملة، انحراف التجارة وإن كان سيزيد من حجم التبادلات التجارية، مع انخفاض تكلفة السلع، إلا أنه يعيق تطور عملية تصنيع حقيقية.18
يعتبر جهاز تسوية النزاعات من أهم الأجهزة في مناطق التجارة الحرة، وفي حالة المنطقة القارية يستمد مبادئه العامة من منظمة التجارة العالمية، وهو بالأساس جاء حصرا للفصل بين الدول، كما تنص الاتفاقية، لكن التصدير والاستيراد غالبا سيقوم به الأفراد والشركات، ولذلك من أجل تفادي عرقلة التبادل التجاري يستحسن إحداث هيكل لإيداع الشكوى والفصل فيها موجه للأفراد، وهنا يمكن الاستعانة بتجربة المحاكم في المجموعات الاقتصادية الإقليمية، كما يمكن الاستعانة بآليات وأجهزة التقاضي على مستوى الاتحاد الافريقي.
يتساءل البعض أنه إذا كانت نتائج المنطقة الحرة في المدى المتوسط والبعيد جيد، أو ربما جيد جدا لمعظم الأفارقة، دول وأفراد، فإن المشكل يكمن فيمن يتحمل مسؤولية الإصلاحات الهيكلية التي يتطلب القياكم بها، من أجل تغيير طبيعة الاقتصادات الافريقية.
هناك عقبات هيكلية أخرى تعترض التجارة بين البلدان الأفريقية، مثل ضعف القدرات الإنتاجية، وقلة التنويع الاقتصادي، مما يحد من نطاق السلع الوسيطة والنهائية التي يمكن الاتجار بها ويعيق التنمية الكاملة لسلاسل القيمة الإقليمية، إضافة للتكاليف التجارية المتصلة بالتعريفات، والتباطؤ في تنفيذ الجداول الزمنية لتحرير الجمركي التي هي أساس اتفاقيات التجارة الحرة، وارتفاع التكاليف التجارية غير الجمركية التي تعوق القدرة التنافسية للشركات والاقتصادات في أفريقيا، وهناك عجز كبير أيضا في البنى التحتية والتي تعتبر ضرورية لتسهيل عمليات التصدير والاستيراد.19
أحد أهم العوائق التي تواجه تطور منطقة التجارة الحرة، هي وجود أكثر من 42 عملة نقدية محلية، وصعوبة توحيد العملات الافريقية، وتكوين عملة موحدة، ولذلك تبقى مسألة توحيد العملة خطوة مهمة جدا إذا أراد الأفارقة نجاح المنطقة الحرة، وهذا أحد البنود ضمن أجندة 2063″، والهدف هو تأسيس بنك مركزي، ثم عملة موحدة، لكن قبل ذلك تم وضع نظام للدفع والتسوية بغرض تسهيل التعاملات النقدية في ظل تعدد العملات والبنوك المركزية.
لقد انقسم القادة الأفارقة حول “اعلان أكرا 2007″، الذي أعاد التذكير بالمسار السياسي وتحقيق حكومة أفريقية موحدة، أو “ولايات متحدة أفريقية”، وكان بعض الأفارقة أميل للتعاون الإقليمي على التعاون القاري، سواء في التكامل الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، أو حرية حركة التنقل في أنحاء القارة، لأنه في الأخير التكامل على مستوى القاعدة يخدم التكامل على مستوى القمة.20 إن عرقلة الاندماج السياسي والاجتماعي قد تشكل عائقا أمام ترسيخ التكامل الاقتصادي، ومنه نجاح منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، وقد تعطي مؤشر على أن الأفارقة ليسوا مستعدين للذهاب بعيدا في الاندماج القاري، الإقليمي ربما لكن القاري هو محل شك.
خاتمة
إن نجاح أو فشل منطقة التجارة الحرة القارية الافريقية مرتبط بنمط الحكم المحلي في الكثير من البلدان الافريقية، وقدرتها على تحقيق التحول نحو نظم فعالة وكفؤة، ومستقلة وملتزمة فعلا من حيث القرار السياسي، إن تنفيذ بنود الاتفاقية يتطلب التزامات مباشرة متعلقة بمنطقة التجارة الحرة القارية، كما يتطلب أيضا التزاما بالسياسات الوطنية الأخرى التي ينتهجها صناع القرار على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، تذليل العقبات غير التجارية خطوة أساسية في نجاح الاتفاقية، من مثل تنويع الاقتصاد، وزيادة الشفافية، والقضاء على الحواجز غير الجمركية، كذا بناء بنية تحتية جيدة، ورصد الأموال الكافية لهذه السياسيات على المستوى الوطني.
تغيير شامل للاقتصاد الافريقي، وتضمين السياسات الصناعية، برامج جادة لتصنيع المنتجات التي لا توجد في السوق الافريقي، والتي عادة تلجأ البلدان الافريقية للخارج لتلبيتها، وخاصة المنتجات التي تدخل فيها التكنولوجيا، والتي تعتبر من أكثر المنتجات استيرادا في القارة الافريقية. كما يمكن الشراكة في سلاسل القيمة العالمية، وهي تجربة ناجحة في آسيا، سواء داخل أو بين المجموعات الاقتصادية الاقليمية.
ستكون لهذا المشروع انعكاسات اقتصادية وسياسية واجتماعية، داخلية وخارجية رهيبة، مما يجعله محط أنظار خصوم أفريقيا، واحتمال التدخل في هذا المسار بالتعطيل أو إعادة التوجيه ممكنة جدا، إذ ترتبط الكثير من البلدان الافريقية مع أطراف أخرى بعقود واتفاقيات تجارية قد تتعارض في بعض الأحيان مع الاتفاق الافريقي، مما يجعل هذه البلدان محل ضغط من الأطراف الخارجية.
لقد سار الأفارقة في خطة طريق استراتيجية مونروفيا، بدل من استراتيجية الدار البيضاء، لكن يظهر أن الأولى ستؤدي إلى الثانية لا محالة، الأفارقة سابقا لم يقبلوا بسياسة الاندماج الكلي السياسي، وهو الفكرة التي كان ينادي بها كوام نكروما ثم معمر القذافي، وبعد أكثر من سبعين سنة من الاستقلال مازال الحلم الافريقي يقاوم، وحقق بعض الخطوات القصيرة لكن الثابتة. إن نجاح -إذا تم ذلك- منطقة التجارة الحرة الافريقية سيغير الواقع العالمي، وسيعيد من جديد إحياء حلم الأباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الافريقية، ويرجع بأفريقيا إلى ما قبل التقسيم الأوروبي الاستعماري، حيث تصبح الحدود جسور للالتقاء بين السلع والتجار الأفارقة، الافراد والمجتمعات، بدل أن تكون خطوط نار وخنادق للدفاع.