أدى الإعلام دورا محوريا في استرجاع سيادة دول كانت تحت الهيمنة الاستعمارية، كما ساهم في تقويض سيادة دول أخرى أو محو دول ظلت لعقود وحدة سياسية موحدة.
منذ اختراع آلة الطباعة، في حدود 1440، تمكنت شرائح واسعة من المجتمعات الأوروبية من القراءة والتعلم بفعل وفرة المطبوعات، من كتب وصحف، ولم يعد يقتصر الاطلاع على تلك الطبقات المرفهة.
الإعلام وظهور الدول القومية
أدى هذا إلى انتشار الوعي، تزامن مع انتقال الأنظمة السياسية من الاقطاعية إلى الدول القومية، التي ولدت من رحم معاهدة واستفليا العام 1648.
واستغلت الدول القومية الحديثة في أوروبا هذا الاختراع في مجال الصحافة، للدعاية من أجل توسيع أراضيها في إطار المد الاستعماري.
انتشار الصحافة والاعلام على نطاق واسع على المستوى العالمي، سمح بتكوين رأي عام يؤثر ويتأثر بالدعاية والدعاية المضادة.
وعليه استغلت النخب في الدول المستعمرة هذه الوسيلة لإيصال صوت كفاحها ضد المستعمر من أجل استرجاع سيادتها، وساعد في ذلك ظرف الثنائية القطبية التي رافقت تراجع المد الاستعماري في العالم.
وبالتالي يكون الاعلام قد ساعد من جهة أخرى في انتشار نموذج الدولة القومية ذات السيادة، من البيئة الأوروبية إلى باقي دول العالم التي رزحت تحت نير الاستعمار.
استرجاع السيادة الوطنية
يصادف 28 أكتوبر من كل عام ذكرى استرجاع السيادة الوطنية على الإذاعة والتلفزيون، وتحتفل الجزائر اليوم بالذكرى 59 لهذا الحدث الهام، الذي أكمل الاستقلال السياسي للجزائر.
فخلال ثورة التحرير المظفرة، فطنت جبهة التحرير الوطني إلى الدور الحيوي للإعلام في عملها الدبلوماسي، لمواجهة آلة التضليل الفرنسية التي ظلت تروج لخرافة “الجزائر فرنسية” طيلة قرن وربع.
واستعملت الإعلام من أجل إيصال صوت الثورة إلى الرأي العام الدولي وشرح أهدافها ومبادئها، انطلاقا من بيان أول نوفمبر.
وإلى جانب دحر الدعاية الفرنسية “الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا”، ركز العمل الإعلامي للثورة على إظهار الوجه الآخر لفرنسا التي تلتحف مبادئ الثورة الفرنسية ” أخوة، عدالة، مساواة”، وهي في الواقع تبيد شعبا بقي إلى قبيل 1830 حرا مستقلا.
فضح وحشية فرنسا خارجيا
وبدأ العمل الإعلامي للثورة بالمناشير والرسائل والاتصال الشخصي والمباشر، ثم تعززت بإصدار صحيفة “المقاومة الجزائرية” في فرنسا والمغرب وتونس.
ونقلت إذاعات دولية: صوت العرب من القاهرة، وإذاعة براغ وموسكو ولوكسمبورغ ومونت كارلو. وإذاعة صوت الثورة من تونس. أخبار الثورة للعالم، إلى جانب إنشاء مكاتب للإعلام الخارجي تعمل تحت اسم بعثة جبهة التحرير الوطني.
وساعدت هذه الإذاعات في فضح الممارسات الاستعمارية، وحشد الدعم للثورة الجزائرية على مستوى الرأي العام الدولي.
وفضح إعلام الثورة ممارسات فرنسا القمعية بالصورة والصوت، من اضطهاد، وتعييب، وسجن، وتغريم، وإبادة جماعية.
وموت بطيء للأطفال والنساء والشيوخ في المحتشدات، إضافة إلى حرق القرى والمداشر وتشريد سكانها، وتطبيق سياسة الأرض المحروقة بالقضاء على الثروة الحيوانية والغابية بواسطة قنابل النابالم المحرمة دوليا.
اعتراف دولي
وبفعل النشاط الإعلامي لدبلوماسية الثورة، نالت الحكومة المؤقتة اعترافا دوليا، ففتحت مكاتب إعلام في كل من لندن، روما، بون وجنيف، إلى جانب مكاتب موسكو، براغ بكين وبلغراد، تحت وصاية وزارة الأخبار المستحدثة.
وساهم هذا التعزيز في كسر الآلة الدعائية الفرنسية، التي حاولت طمس وجود الدول الجزائرية وهويتها، ثم طمس ثورة شعب قاوم طيلة قرن وربع.