تعيش فرنسا أزمات على مستوى دبلوماسيتها، من مالي إلى الجزائر ثم أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وقائع تهدد بزوال عرش فرنسا من إفريقيا.
لا تكاد فرنسا تستفيق من أزمة حتى تدخل أخرى، وهذا دأبها منذ تدخلها في ليبيا لإسقاط النظام، فأسقطت نفسها في مستنقع أزمات، نتيجة تمدد تداعيات الأزمة الليبية إلى كل مستعمراتها السابقة، التي تنتفض ضدها.
الوضع الداخلي
تستعد فرنسا لإجراء انتخابات رئاسية مطلع 2022، ومن أجل تنشيط الحملة الانتخابية، لن يجد المترشحون أفضل من استغلال التاريخ المشحون بين الجزائر وفرنسا لفت انتباه الناخب الفرنسي، وفي ظل منافسة داخل أحزاب اليمين، ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليصطاد في المياه العكرة ويلعب على وتر كراهية الأجانب، ليستقطب ناخبي الجبهة الوطنية بقيادة ماري لوبان، المعروفة بسياسة حزبها العدائية لكل ما هو أجنبي وجزائري على وجه التحديد، وكذا إيريك زمور المنافس الآخر لماكرون.
الأزمات الدبلوماسية المتتالية بين فرنسا وعدد من الدول وفشلها الاستراتيجي، وهي عوامل سنذكرها لاحقا في هذا المقال، أثرت بما لا يدع مجالا للشك على صورة وسمعة إيمانويل ماكرون بصفته رئيسا، ما ينقص كثيرا من فرص إعادة انتخابه لعهدة ثانية. وعليه جاءت تصريحاته غير المقبولة في إطار إعادة الاعتبار لنفسه وحظوظه. لكن كان لها أثر عكسي (effet pervers).
وتشهد فرنسا وضعا داخليا متأزما بسبب تبعات جائحة كورونا وتداعيات السياسة الاجتماعية لإيمانويل ماكرون التي تسببت في مظاهرات واحتجاجات عرفت باحتجاجات السترات الصفراء، على مدار السنوات الثلاث الأخيرة، وهي حركة شعبية مناهضة لسياسة ماكرون. كان آخرها مطلع أكتوبر احتجاجا على إجبارية التطعيم ضد كورونا والجواز الصحي، متهمين الحكومة باستعباد الناس وتقسيمهم من خلال تدابير كورونا، وقد تزامنت هذه الأخيرة وتصريحات ماكرون المعادية للجزائر في ذاكرة شعبها وجيشها وسلطتها.
متوترة مع الأوروبيين
العلاقات بين فرنسا وبريطانيا ليست على أحسن ما يرام، حيث توترت العلاقات بينهما بسبب الخلاف حول حقوق الصيد في جزيرة جيرزي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكذا بسبب المهاجرين في سواحل كاليه ومضيق المانش، أما مع ألمانيا.
منافسون في “السيافا”
قال الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران: “لا وجود لفرنسا في القرن 21 دون أفريقيا”. تستمد فرنسا قوتها من ثلاثة عوامل هي: العضوية الدائمة في مجلس الأمن باعتبارها قوة استعمارية. العامل الثاني قوتها النووية، والعامل الثالث هو وجودها في إفريقيا.
لكن هذا العامل يتراجع منذ مدة، في وسط وغرب إفريقيا، حيث النفوذ التاريخي لفرنسا الاستعمارية وما بعد الاستعمار، لم تعد فرنسا اللاعب الوحيد، والمسيطر على “دول الفرنك الفرنسي أو CFA” حيث أوجدت روسيا موطئ قدم جديد لها، في منطقة كانت معظم دولها اشتراكية.
فمالي التي كانت حليفا للاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، وقعت اتفاقا عسكرية مع روسيا، يوم 26 جوان 2019، وفي 2018 وقعت بوركينافاسو اتفاقا مماثلا في إطار تنويع موردي الأسلحة، وعدم الارتهان لمزود واحد.
وكذلك ساعدت روسيا جمهورية إفريقيا الوسطى في تنظيم انتخابات رئاسية رغم الظروف الأمنية التي أخفقت فرنسا في احتوائها.
وتميز الحضور الروسي في المستعمرات الفرنسية السابقة، بالصعوبات التي واجهتها فرنسا لحفظ النظام في تلك الدول وخاصة مالي، حيث خرج متظاهرون مناهضون للوجود الفرنسي مطالبين برحيل القوات الفرنسية، مقابل الدعوة إلى التدخل الروسي لإنهاء نفوذ فرنسا هناك.
إخفاق استراتيجي
من جهة أخرى أخفقت فرنسا في ليبيا، حيث كانت المتسبب في العدوان على ليبيا وإسقاط النظام هناك وقتل الرئيس الليبي، ومن ثم انتشار الفوضة التي مازالت تعاني منها ليبيا بعد 10 سنوات من إسقاط النظام.
وقد تدخلت روسيا أيضا ما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تعود إلى ليبيا من أجل تقويض النفوذ الروسي، وهذا دفع القوى الكبرى إلى التأكيد على ضرورة التعجيل بحل الأزمة.
والأمر نفسه ينطبق على سوريا حيث لم تتمكن فرنسا من بسط نفوذها هناك، وبالمقابل استطاعت روسيا أن تؤمن نظام بشار الأسد الذي أراد الغرب الإطاحة به، على خلفية رفضه السماح بتمرير أنابيب الغاز من قطر إلى أوروبا عبر أراضيه.
وهو مشروع كان يرمي لفك تبعية أوروبا للغاز الروسي بعد أزمة الغاز العام 2006، وتضمن روسيا ما نسبته 41 بالمائة من احتياجات الغاز الأوروبية.
ويعتبر الغاز الطبيعي في روسيا قطاعا استراتيجيا، ما يعني أية محاولة لتقليص مناطق توزيعه تعني إعلان حرب.
علاقة متصدعة
لم تستفق فرنسا من أزماتها الداخلية والإقليمية حتى صفعتها أستراليا بإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية والاستعاضة عنها بصفقة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وتسبب الأمر في أزمة دبلوماسية مزدوجة مع أستراليا ومع الولايات المتحدة الأمريكية حيث استدعت فرنسا سفيريها في واشنطن وكانبيرا.
ويدخل هذا التصرف في إطار إعادة بناء تحالفات دولية جديدة، بين الغرب “الكومنويلث” على وجه التحديد، بريطانيا الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، وبين التحالف الصيني الروسي.
وهذا في إطار التحول الذي يشهده النظام الدولي الذي يخرج تدريجيا من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب، مبني على التكتلات.
ويبدو أن الحلفاء الانجلوساكسون رفعوا الحماية عن أوروبا التي دامت سبعة عقود ونيفاـ وهذا ما يفسر تغير قواعد التحالفات العسكرية، التي يبدو أن فرنسا قد أخرجت منها، وبقيت بلا حماية.