كل المؤشرات توحي بأن الأطراف الليبية اقتنعت أخيرا بإخراج البلاد من أزمة عمرها عشر سنوات ونيّف.. مواقف مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.. جولات الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثة الدعم في ليبيا «أونسميل»، عبد الله باتيلي، إلى جانب مواقف دول الجوار المتعاونة، والدول الكبرى المؤيدة للخطّة الأممية، من أجل إيجاد حل ليبي-ليبي للأزمة، رغم بعض الصعوبات الداخلية التي قررت الأطراف تجاوزها وتجاوز المتسببين فيها.
في آخر خرجاته، التقى رئيس بعثة الدعم في ليبيا عبد الله باتيلي برؤساء عدد من الدول الأفريقية، من أجل بحث ملف إخراج المرتزقة من ليبيا وترحيلهم إلى بلدانهم، وكذا تحصيل مزيد من الدعم للعملية السياسية في ليبيا وإنهاء النزاع فيها، إلى جانب ذلك، شهد الداخل الليبي حركية سريعة في تنفيذ مخرجات اتفاق برلين خاصة ما تعلق منها باللجنة العسكرية المشتركة 5+5، التي تعتبر أكثر المؤسسات التزاما بمهمتها، حسب تأكيد رئيس بعثة الدعم، عبد الله باتيلي.
لجنة لإعداد قوانين الانتخابات
آخر تطورات المسار السياسي للأزمة الليبية، كان تعيين كل من المجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري، ومجلس النواب برئاسة عقيلة صالح، وستة أعضاء عن كل جانب لتشكيل لجنة 6+6، تتكفل بمهمة إعداد القوانين الانتخابية، والتي شكلت في وقت سابق موضع خلاف بين مجلسي الدولة ومجلس النواب.
في السياق، أكد عضو لجنة 6+6 في مجلس الدولة الاستشاري، فتح الله السريري، أن اللجنة من المقرر أن تنهي مهامها قبل نهاية ماي المقبل، وأشار إلى أن أعضاء اللجنة عن مجلس الدولة أرسلوا دعوة إلى ممثلي مجلس النواب لعقد أولى اجتماعات اللجنة المشتركة؛ لإعداد القوانين الانتخابية، وتحديد كيفية ومكان انعقاد الأشغال.
من جهته، دعا رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى التعجيل بعقد أولى الجلسات لمباشرة عمل اللجنة، والشروع في مهمتها لإعداد القوانين الانتخابية، وكانت المستشارة الأممية السابقة، ستيفاني وليامز، طرحت المبادرة المتمثلة في تشكيل مجلسي النواب والدولة للجنة مشتركة لإعداد قاعدة دستورية تمهيدا لإجراء الانتخابات، وحددت تاريخ 14 و15 مارس 2022، لتقديم المجلسين ممثلين عنهما في اللجنة. لكن المقترح صادف انقساما سياسيا جديدا تمثل في ظهور حكومة جديدة أقرّها مجلس النواب في طبرق، برئاسة فتحي باشاغا. وهو مستجد عرقل كثيرا انسيابية العملية السياسية.
التعديل الدستوري الـ 13.. توافق الفرقاء
في 8 فيفري 2023، صادق مجلس النواب على التعديل الثالث عشر على الإعلان الدستوري لعام 2011، وتم نشره في الجريدة الرسمية، وفي الثاني مارس 2023، أعلن المجلس الأعلى للدولة مصادقته على التعديل، في جلسة طارئة، وعارض بعض أعضائه التصويت الإيجابي، بحجة أن الجلسة لم تستوف النصاب بعد مرور ساعتين من بدايتها، لكن، وحسب القانون الداخلي للمجلس، فإن الجلسات الطارئة التي يدعو إليها رئيس المجلس لا تخضع لهذا الشرط، وأنهى تصويت مجلس الدولة على التعديل الضبابية التي اكتنفت المقترح، والذي مرّ رغم ما يحمله من نقاط خلافية جديدة، حول كيفية توزيع المقاعد في غرفتي البرلمان، ومعيار ذلك. كما أنه لم يفصل في ترشح العسكريين من عدمه، لتولي منصب رئيس الجمهورية، وكذا مزدوجي الجنسية، وهي نقاط تم ترحيلها إلى القوانين الانتخابية.
نبذ الاقتتال الداخلي ورفض التدّخل الأجنبي
اجتمع أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) وقادة الوحدات الأمنية والعسكرية في مناطق غرب وشرق وجنوب ليبيا، يوم 28 مارس الماضي، بطرابلس، وجددوا خلال الاجتماع التزامهم بنبذ الاقتتال والعنف بكافة أشكاله على كامل التراب الليبي، وأكدوا – في بيان – ضرورة أن يكون الحوار ليبيّا – ليبيّا، وداخل الأراضي الليبية، ورفضهم التدخل الأجنبي في الشأن الليبي، والمضي في مسعى الانتخابات وتوفير بيئة مناسبة للدفع بالعملية السياسية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة خلال العام 2023.
واتفق أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) وقادة الوحدات الأمنية والعسكرية، في غرب وشرق وجنوب ليبيا، على ضرورة إيجاد حكومة موحدة لكل مؤسسات الدولة الليبية، ومواصلة العمل في طريق توحيد المؤسسات العسكرية واستكمال جهود المصالحة الوطنية، وجبر الضرر وحل مشاكل المهجرين والنازحين والمتضررين من الحروب.
وقبل ذلك، عقدت اللجنة اجتماعا برئاسة المبعوث الأممي، يومي 15 و16 جانفي 2023، في سرت، مع مراقبي وقف إطلاق النار الليبيين والتابعين لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حيث صادقت اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) على الشروط المرجعية لعمل اللجنة الفرعية الفنية المشتركة التابعة لها، والمعنية بنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، والتي عُهدت إليها مهمة تصنيف المجموعات المسلحة عملاً بالبند الرابع من اتفاق وقف إطلاق النار، كما اتخذت خطوات لتهيئة الظروف لعملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، بمجرد أن تصبح البيئة السياسية مواتية، إلى جانب إطلاق حوار مع ممثلي المجموعات المسلحة لمناقشة سبل تأمين بيئة مواتية للانتخابات من بين أمور أخرى، وكان من المقرر أن تنطلق جلسات الحوار في الأسابيع التالية للاجتماع، إلا أنه لم يحدد تاريخ لإجرائها.
من جهة أخرى، ترأس باتيلي اجتماعاً لمدة يومين، بين 7 و8 فيفري 2023، بالقاهرة، ضم اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) ولجان التواصل في كل من ليبيا والسودان والنيجر، وبدعم من مستشاري البعثة، وضع المشاركون في هذا الاجتماع آلية متكاملة للتنسيق المشترك وتبادل المعلومات بين البلدان الثلاثة لتسهيل عملية انسحاب المرتزقة والمقاتلين الأجانب، وصادقوا عليها.
جولة باتيلي لترحيل المرتزقة الأفارقة
تعتزم الأمم المتحدة البدء رسميا في ترحيل المرتزقة الأفارقة إلى بلدانهم مع بداية شهر جوان القادم، على أن تنتهي العملية شهر سبتمبر 2023، كخطوة أولى في مساعي إنهاء وجود المقاتلين الأجانب على الأراضي الليبية، بما يتيح التحكم في الوضع الأمني، ومنه التمهيد لتنظيم الانتخابات في أجواء أكثر أمنا، وكذا لحمل الدول التي تساند هذا الطرف أو ذاك، على سحب قواتها من ليبيا، والسماح، بالتالي، بتوحيد المؤسسة العسكرية ودمج الميليشيات الليبية في جيش ليبي موحد يتولى الدفاع عن الأمن الوطني الليبي.
وفي إطار تحقيق هذا المسعى، قام رئيس بعثة الدعم إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، بجولة إفريقية قادته إلى السودان وتشاد والنيجر، حيث التقى رؤساء البلدان الثلاث، وأجرى مشاورات مع وزيري الدفاع والخارجية، وتم الاتفاق على ترحيل المرتزقة إلى تلك الدول، في إطار دعم دول الجوار مساعي ليبيا والجهود الأممية لإنهاء الأزمة التي طالت.
وكانت آخر زياراته إلى النيجر، حيث التقى رئيس النيجر، محمد بازوم، وقال في تغريدة على تويتر إنه «أطلع الرئيس بازوم على التقدم المحرز في المسار الأمني، وبخاصة جهود تسريع انسحاب المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا. وكذا آخر التطورات السياسية في ليبيا، بما في ذلك الجهود المبذولة لإجراء الانتخابات هذا العام».
وطمأن باتيلي رئيسي السودان وتشاد والنيجر، خلال جولته الإفريقية، أن المقاتلين والمرتزقة الذين سيرحلون من ليبيا قصد إعادتهم إلى دولهم، لن يحملوا معهم أسلحة قد تهدد أمن تلك الدول. وفي السياق، قالت تقارير صحفية إن عواصم غربية توسطت لدى الدول الإفريقية من أجل استقبال أبنائها الذين تنقلوا إلى ليبيا للمشاركة في الأعمال القتالية منذ بدء الأزمة عام 2011.
مبادرة جديدة لانتخابات قبل نهاية العام
قدّم المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، تقريرا مفصلا لمجلس الأمن الدولي، عن الوضع الأمني والسياسي في ليبيا، بتاريخ 27 فيفري 2023، وحمّل التقرير مجلس النواب الليبي، بشكل مباشر، مسؤولية إفشال مسار القاعدة الدستورية، وبالتالي، تعطيل الانتخابات؛ ذلك أن مجلس النواب قدم مقترحا جديدا في سياق الإعداد للقاعدة الدستورية يتمثل في توزيع عدد مقاعد البرلمان حسب المناطق التاريخية الثلاث: طرابلس وفزان وبرقة، لكن هذا العرض لم يرق للمجلس الأعلى للدولة الذي يصر على اعتماد الكثافة السكانية معيارا، وبالتالي، وبدل أن تحل المسائل العالقة بخصوص شروط المترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، عقّد النواب الأمور أكثر باختلاق خلاف جديد.
وفي وقت تدفع كل القوى الداخلية والخارجية للانتخابات باعتبارها السبيل الأمثل لإعادة الاستقرار إلى ليبيا، من خلال انتخاب رئيس للبلاد يتولى مسؤولية إعادة تنظيم الأمور، لإنهاء الانقسام وازدواجية المؤسسات والقرار، انكشف فشل الفواعل الداخلية في التوافق على حلول وسط، وعليه، قدم عبد الله باتيلي مبادرة جديدة، أعلن عنها أمام مجلس الأمن الدولي، وقال حينئذ إنه يخطط لتشكيل لجنة توجيهية تهدف إلى تمكين البلاد من إجراء انتخابات بعد إخفاق النخبة السياسية في الاتفاق على قواعد دستورية، وذلك استنادا إلى المادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، وبناء على الاتفاقات التي توصل إليها الأطراف الليبيون في السابق.
وقال باتيلي إنه «سيتم إنشاء لجنة توجيه رفيعة المستوى، وتيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023، بجانب التوافق على متطلبات منها تأمين الانتخابات واعتماد ميثاق شرف للمرشحين»، وأوضح أن المبادرة ترمي إلى الجمع بين مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو المؤسسات السياسية وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلون عن النساء والشباب.
وبالإضافة إلى اضطلاعها بتيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023، سوف تمنح اللجنة المقترحة منصة للدفع قدما بالتوافق حول الأمور ذات الصلة، مثل تأمين الانتخابات، واعتماد ميثاق شرف لجميع المرشحين. وفق ما أحاط به باتيلي مجلس الأمن الدولي علما.
نقطة انعطاف
شهد الملف الليبي نقطة انعطاف مفصلية منذ أواخر السنة الماضية، وذلك عندما قام مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، وليام بيرنز، بزيارة مفاجئة للعاصمة طرابلس ومدينة بنغازي تلتها زيارات أخرى لدبلوماسيين كبار أمريكيين، على رأسهم مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، والتي أجرت هي الأخرى زيارة موازنة إلى الغرب والشرق.
ويفسر انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في الملف الليبي، بعد أن تركته منذ الإطاحة بالنظام السابق، بمواجهة منافسها التقليدي في العالم، الذي عاد هو الآخر ليهتم بالملف الليبي. ولئن كانت روسيا ترى أن استقرار ليبيا سيساهم في إعادة الأمور إلى نصابها، ومنه تصحّح الخطأ الاستراتيجي الذي ارتكبته عندما لم تعارض تدخل الناتو في ليبيا العام 2011، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر ليبيا خزانا للطاقة التي منعتها روسيا عن الغرب بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يفسر توقيت العودة القوية لأمريكا في الملف. فاستقرار ليبيا سيمكنها من ضمان تزويد انسيابي للسوق الدولية بالطاقة، خاصة أنها تحتل المرتبة الثالثة إفريقيا في مجال النفط، والرابعة في مجال الغاز الطبيعي، وهي على مقربة من القارة الأوروبية، التي كانت أكثر المتضررين من تذبذب التموين بالنفط والغاز.
يضاف إلى ذلك تمسك الولايات المتحدة الأمريكية باستراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل التي شهدت انفلاتا أمنيا، بعد إسقاطها نظام معمر القذافي، والفوضى التي شهدتها ليبيا وترتب عنها انتشار السلاح بعد سقوط مخازن الأسلحة، خاصة وأن ليبيا كانت تحتوي على أكبر مخزن للسلاح في إفريقيا. وبالتالي، تسبب توافر الأسلحة في يد العام والخاص، بأنواعها الثقيلة والخفيفة، في انتشار العنف وانتقال الجماعات الإرهابية وتوسع تعدادها.
وفي هذا السياق، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، خلال جلسة مجلس الأمن لمكافحة الإرهاب، نهاية الشهر الماضي، إن الجماعات الإرهابية حققت مكاسب في منطقة الساحل وأماكن أخرى، حيث تحاول توسيع نفوذها.. وأضاف: «إن أثر الإرهاب آخذ في الاتساع، مع تدفق المقاتلين والأموال والأسلحة بشكل متزايد بين المناطق وعبر القارة، ومع تشكيل تحالفات جديدة مع جماعات الجريمة المنظمة والقرصنة، كما يوفر عالم الإنترنت منصة عالمية لنشر الأيديولوجيات العنيفة إلى أبعد من ذلك».
ومهما تكن دوافع الطرفين من العودة للملف الليبي، فإن ذلك دفع الأطراف الداخلية إلى تجاوز الخلافات الشخصية، وتصلب المواقف، والمضي قدما نحو إيجاد حل داخلي للأزمة بمساعدة أممية.
دول الجوار سند داعم
وفي وقت تشهد ليبيا تطورات إيجابية نحو تحقيق أملها في استعادة الاستقرار، عبرت دول الجوار عن دعم الجهود الليبية، ومساعي الأمم المتحدة لإخراج ليبيا من الإضطراب الذي تعيشه. وقد أكدت الجزائر التي قدمت أولى مبادراتها لحل الأزمة الليبية العام 2014، واستقبلت الفرقاء الليبيين على مدار السنوات الموالية، عن دعمها اللامشروط للجهود الليبية، مع الوقوف مسافة واحدة من جميع الأطراف، بما يخدم المصلحة العليا للدولة الليبية.
كما أكدت تونس، وقوفها الدائم والثابت إلى جانب ليبيا لإنجاح المسار السياسي، في كنف التوافق بين الليبيين ووفقا لأولوياتهم، بما يمهد لإجراء الاستحقاقات الانتخابية ويفضي إلى تركيز مؤسسات شرعية ودستورية دائمة، تستعيد عبرها ليبيا أمنها واستقرارها ودورها في محيطها الإقليمي والدولي»، أما مصر فكانت فضاء للقاءات عديدة بين مختلف الفرقاء الليبيين، سواء تعلق بفواعل الشرق أو الغرب، ولقاءات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5. كما احتضنت محادثات بين مجلسي الدولة والنواب عددا من المرات..