مضى على احتلال الصحراء الغربية 47 سنة، أي ما يقارب نصف قرن، لكنّ رغم مرور كل هذا الزمن الطويل، فإن المغرب لم ينجح لا في ترسيخ احتلاله ولا في كسب معركة سيادته على هذه الأرض، التي قضت اللّوائح الأممية عبر مرور السنين بأنّها إقليم محتل، ومعني بتقرير المصير والاستقلال.
كلّ المعارك التي خاضها المغرب لتأكيد سيطرته على الصّحراء الغربية فشلت، سواء تعلّق الأمر بالحرب المسلّحة، أو المعركة الدبلوماسية التي نتابع أطوار إخفاقاتها هذه الأيام، بعد الاعتراف الدولي المتزايد بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، وإقدام العديد من البلدان التي كانت قد وقعت في مصيدة أكاذيب وابتزاز المخزن، على مراجعة مواقفها، وسحب تأييدها لأطروحته الاستعمارية، والاصطفاف إلى جانب الحقّ والشرعية الدولية.
لا يختلف اثنان في كون المغرب يعيش واحدة من أصعب وأحلك فتراته، إن كان على المستوى الداخلي حيث يواجه وضعا اقتصاديا واجتماعيا خانقا، أو على المستوى الخارجي، حيث باتت دبلوماسيته ترزح تحت حالة من الضعف والوهن الشديدين، فشلت معهما كلّ محاولاته ومؤامراته لترسيخ سيادته على الإقليم الصحراوي المحتل، فما فتئت الدول تلتف حول القضية الصحراوية، وتؤكّد تأييدها للحلّ الأممي الذي ينصّ على تقرير المصير عبر استفتاء حرّ ونزيه يختار عبره الصّحراويّون مستقبلهم دون الرضوخ للحلّ الأحادي الذي فصّله المغرب على مقاسه لترسيم احتلاله للصّحراء الغربية.
جدار من المعارضين للاحتلال
من كولومبيا والبيرو، مرورا بكينيا، ووصولا إلى جمهورية جنوب السودان، توالت الاعترافات بالجمهورية الصحراوية وقضيتها العادلة، ما شكّل ضربات موجعة للمغرب، الذي بات يواجه جدارا منيعا من المعارضين لاحتلاله، واستغلاله البشع لخيرات الصّحراويّين.
لقد جدّدت العديد من الدول، مؤخرا، تمسّكها بعلاقاتها مع الجمهورية الصحراوية، فعلى هامش الدورة 77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التقى الوفد الصحراوي بوفد جمهورية جنوب السودان التي قرّرت استئناف علاقاتهما الدبلوماسية مع الجمهورية الصحراوية، تماشيا مع مبادئ وأهداف الاتحاد الإفريقي.
نفس الموقف عبّرت عنه كينيا التي جدّدت تمسكها بالعلاقات الدبلوماسية المتميزة مع الجمهورية العربية الصحراوية، وبحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، مبرزة أن موقفها يتطابق مع موقف الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 690 لسنة 1991 حول ممارسة الشعب الصحراوي لحقه في تقرير المصير.
كما جدّدت دول من أمريكا اللاتينية اعترافها بالجمهورية الصحراوية، بداية بكولومبيا التي قرّرت استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية العربية الصحراوية في أوت الماضي، وذلك تماشيا مع مبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة والاتفاق المبرم بين البلدين بتاريخ 27 فيفري 1985، ثم دولة البيرو التي أعلن رئيسها “بيدرو كاستيو تيرون” قبل أيام من على منبر الأمم المتحدة إعادة العلاقات الدبلوماسية بين بلاده والجمهورية العربية الصحراوية، وشدّد على دعم بلاده لحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، وتأييد الإجراءات التي اتخذها ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، “ستافان دي ميستورا”، لاستعادة سريان وقف إطلاق النار، وتعزيز حل تفاوضي وسلمي.
وقد سبق تجديد رئيس البيرو اعترافه بالجمهورية الصحراوية، فضيحة مدوّية كشفت أساليب الابتزاز وشراء الذمم التي ينتهجها المغرب لاستمالة مسؤولي بعض الدول وضمّهم إلى أطروحته الاستعماريةّ، وهو ما فعله مع وزير الخارجية البيروفي “رودريغز مكاي”، الذي وقع في شركه ورضخ لمساوماته القذرة، حيث أقرّ بشكل أحادي سحب الاعتراف بالصحراء الغربية، فطاردته اللعنة وكانت النتيجة، استقالته وخروجه من الباب الضيق بعد شهر وأربعة أيام من تنصيبه.
وكانت الصّحافة البيروفية، قد اتّهمت “رودريغز” بتلقيه رشاوى، ونسب أرباح من صفقات الفوسفات المنهوب من الإقليم الصحراوي مقابل سحب الاعتراف بالجمهورية الصحراوية.
وليس وزير خارجية البيرو من تلقّى الصفعة وحده، بل المغرب أيضا، الذي خلص إلى أن اعتماده على تجنيد بعض الأطراف واللّوبيات، مقابل المال من أجل عرقلة الدعم المتزايد لقضية الصحراء الغربية، لم يعد يحقّق له أي نتائج إيجابية بل على العكس تماما، فالكثير من الدول تعتمد نفس أسلوبه في الابتزاز والمساومة، حيث تشترط عليه تقديم المقابل المادي لتدعم موقفه الاستعماري، وحينما تحصل على مبتغاها تغيّر موقفها وتدير له ظهرها.
المصائب لا تأتي فرادى
ولأنّ المصائب لم تعد تأتي فرادى بالنسبة للمغرب، فإنّ هزيمته المدوّية في معركة السيادة لم تكن إلا مقدّمة لهزائم قضائية متتالية زلزلت كيانه، وأخلطت حساباته، فبعد الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة العدل الأوروبية، والتي أقرّت الحق الحصري للشعب الصحراوي عن طريق ممثّله الشرعي، والوحيد جبهة البوليساريو في التصرف في ثرواته الطبيعية، أصدر مجلس الدولة الفرنسي مؤخرا، على ضوء الإجراءات التي باشرها اتحاد الفلاحين الفرنسيين بشأن وقف الصادرات الزراعية من أراضي الصحراء الغربية نحو فرنسا، قرارا سيسمح بالتطبيق الفعّال لحكم محكمة العدل الأوروبية لعام 2016، الذي صنّف الصحراء الغربية والمغرب إقليمين منفصلين ومتمايزين، وأصرّ على أن الإتحاد الأوروبي لا يمكنه اعتماد “سلطة” المغرب في الإقليم، بالنظر إلى افتقاره إلى السيادة.
وتبقى الضّربة القانونية التي قصمت ظهر الاحتلال المغربي، هي تلك التي وجّهتها له المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، من خلال حكمها القاضي بضرورة إيجاد حل دائم ينهي احتلال الصحراء الغربية.
ففي 22 من الشهر الجاري، وضعت المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب النقاط على الحروف، وقضت بأنّ “المملكة المغربية، هي مجرد دولة محتلة ومعتدية، وأنّ للشعب الصحراوي حق غير قابل للتقادم في تقرير المصير والاستقلال، وأن جميع الدول ملزمة ومن واجبها دعم الجمهورية الصحراوية على استكمال استقلال بلادها”.
الانتكاسة التي مني بها المغرب إفريقيا، عظيمة، لأنّه لطالما زعم بأن إفريقيا هي ملعبه لوحده، وبأن دولها ومنظماتها في جيبه، لكن الحقيقة أن دول القارة السمراء التي عانت من ويلات الاستعمار، تدرك أكثر من غيرها حجم معاناة الصحراويين، لهذا فهي تدعم حقّهم في تقرير المصير عبر استفتاء حرّ ونزيه،أما بعض البلدان التي تخرج بين الحين والآخر بمواقف شاذة داعمة للطرح المغربي، فهي في الغالب تفعل ذلك تحت الضغط والمساومة، أو كما سبق وقلنا لتحقيق مصالح آنية، ثم ما تلبث أن تتراجع لتستظل بمظلة الشرعية.
خسارة المعركة الدّبلوماسية
رغم النّكسات والصّفعات التي تنهال عليه من كلّ جهة، فإنّ المغرب يصرّ على المغالبة ويرفض الاعتراف بهزائمه الدبلوماسية، متفاخرا بما يعتبره النّصر الكبير الذي منحه إياه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عندما أقرّ في اللحظات الأخيرة من نهاية حكمة، بشرعية احتلاله للصحراء الغربية.
المغرب يخفي هزائمه المتتالية وراء هذا النّصر الوهمي، وهو فعلا كذلك لأنّ موقف ترامب غير القانوني رحل معه، وإلى الآن لم نسجّل تصريحا أو حتى تلميحا من الإدارة الأمريكية الجديدة تؤيّد ما أقدم عليه الرئيس السابق.
فبعد نحو عامين على تولي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة، لم يتم إجراء أي اتصال بين البيت الأبيض والسلطات المغربية بخصوص عطية ترامب المسمومة، وهو ما زاد من توجّس وقلق المخزن حول مآل الاعتراف الأمريكي بسيادته المزعومة على الصحراء الغربية.
ويتجلى بوضوح أن إدارة بايدن التي تجاهلت تمام الجهل قرار ترامب الأحادي – حتى وإن كانت لم تلغيه رسميا – تدرك جيّدا بأنّ القصد منه لم يكن مطلقا مراجعة السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالنزاع الصحراوي، بل إنّ القرار كان جزءا من صفقة التطبيع مع الكيان الصهيوني لا أكثر ولا أقل، لهذا فهي لا تكتفي بتجاهل مضامينه بل وتلتف عليها، حيث لم تفتح قنصلية في الأراضي الصحراوية المحتلة كما كان مقرّرا، وأحجمت عن دعم الاحتلال المغربي في مشاريعه التوسعية بالصحراء الغربية.
عقد في المنشار
وقد شهدنا كيف اعترض الكونغرس الأمريكي بشدة على فتح قنصلية الولايات المتحدة في الداخلة المحتلة، ومنع على وزارة الخارجية، من خلال قانون المالية لعام 2022، استعمال أي مخصّصات أو أموال لبناء وإنشاء وتشغيل أي قنصلية في الصحراء الغربية، على اعتبار أنّه “لا حاجة لوجود قنصلية أمريكية هناك”، الأمر الذي يعني “حظرها من الناحية القانونية”.
وبدل ذلك، دعا الكونغرس لاستعمال المخصصات الخاصة بالقنصلية لدعم الصحراء الغربية والعملية السياسية لحل النزاع هناك.
كما أصدر الكونغرس الأمريكي ضمن ميزانية الدفاع، قرارا يمنع أي تمويل وأي تعاون عسكري مع الرباط قبل التزامها بحل نزاع الصحراء الغربية، ومنع بيعها بعض أنواع الأسلحة.
ويشار إلى أنّ 27 عضوا في مجلس الشيوخ الأمريكي، سبق وأن طالبوا، منتصف شهر فيفري الماضي، الرئيس بايدن بالتراجع عن إعلان ترامب، وإعادة واشنطن إلى التزامها بإجراء استفتاء لتقرير مصير الشعب الصحراوي.
أمريكا لم تغيّر موقفها
عند مجيئه إلى السلطة، حدّد بايدن خارطة طريق لمشاريعه المهمة في السياسة الخارجية الأمريكية، والتي تضمّنت الانسحاب من أفغانستان، إنهاء الحرب في اليمن، وقضايا كثيرة أخرى لم يكن ملف النزاع على الصحراء الغربية من بينها، والدليل على ذلك أنه لم يقم أي من كبار المسؤولين الأمريكيين، بزيارة مدينة الداخلة أو العيون المحتلتين، وحتى تصريحات السياسيين الأمريكيين حول القضية الصحراوية لم تتغيّر عن التي ألفناها عن الإدارات الأمريكية المتتالية، والتي “تؤيّد جهود الأمم المتحدة من أجل تعيين مبعوث شخصي للأمين العام للصحراء الغربية بأسرع ما يمكن”، و فعلا لقد زكّت واشنطن تعيين “ستافان دي ميستورا”، ما يعني أنها ملتزمة رسميا بالتسوية الأممية السياسية للقضية الصحراوية.
وكان رئيس الدبلوماسية الأمريكية “أنتوني بلينكين”، قد أكّد خلال اجتماع عقده نهاية مارس المنصرم، مع الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، دعم الولايات المتحدة للمفاوضات السياسية “بهدف حل النزاع في الصحراء الغربية”.
وحتى مناورات “الأسد الإفريقي” التي يراهن عليها المخزن دوما للحشد والتعبئة لطرحه الاستعماري، فقد عارضت أمريكا أن تشمل الأراضي الصحراوية المحتلة.
ويوم 30 جوان 2022، نفى ناطق باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، أن تكون مناورات
«الأسد الإفريقي” بالمغرب شملت مناطق الصحراء الغربية، وذلك عكس المعلومات التي اخترعها وروّجها الإعلام والمسؤولون في المملكة المغربية حول نطاق التدريبات.
الصهاينة يشدون العصا من الوسط
طالب الملك محمد السادس في خطاب العيد الوطني “ثورة الملك والشعب” من الشركاء التقليديين والجدد، موقفا واضحا من قضية الصحراء الغربية، ويقصد بالموقف الواضح، الاعتراف بسيادة المغرب على الإقليم الصحراوي الذي يحتله منذ 47 عاما، ووجّه الملك كلامه مباشرة إلى فرنسا بصفتها شريكا تقليديا، ثم إلى الكيان الصهيوني بصفته شريكا جديدا. وجاء خطابه ليفاجئ الكثيرين بشأن الموقف الحقيقي للصهاينة، وهو استمرارهم في اتخاذ موقف ضبابي في هذا الملف، رغم التطبيع.
ومنذ استئناف العلاقات مع الكيان الصهيوني في نهاية 2020، ساد الاعتقاد بدعمه للمغرب في ملف الصحراء الغربية، غير أن الموقف الحقيقي للصهاينة كان هو الغموض ثم الاستمرار في عدم الاعتراف بالسيادة المغربية، رغم أن أبواق المخزن التي تداري دائما الحقيقة بمزاعم وأكاذيب لا تنطلي على أحد، روّجت لدعم الكيان الصهيوني للسيادة المغربية المزعومة على الصحراء الغربية المحتلة.
ومعلوم أنّ اتفاقية التطبيع لم تتضمّن أيّ اعتراف صهيوني بمغربية الصحراء الغربية المحتلة عكس الاتفاقية الموقعة مع ترامب.
المغرب، كما سبق وشهدنا ماض إلى خسارة معركة سيادته على الصحراء الغربية، وهو سيخسرها حتما، لأنّ ما بني على باطل فهو باطل، لهذا فنحن لا نستغرب مطلقا مراجعة بعض الدول لموقفها من القضية الصحراوية، وابتعادها عن الطرح الاستعماري المغربي، ودعم الحل العادل عبر استفتاء تقرير المصير لتصفية الاستعمار من آخر مستعمرة بإفريقيا.
ونحن، في هذا السياق، لا نستبعد مراجعة إسبانيا لموقفها، واستعادة “رشدها” السياسي خاصة بعدما ورد عن رئيس حكومتها بيدرو سانشيز في خطابه قبل أيام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث دافع عن “حل سياسي مقبول من الطرفين – المغرب والبوليساريو – وفي إطار ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن”.
ولم ينس سانشيز أن يذكر بأنّ حكومته “ستواصل دعم السكان الصحراويين في المخيمات، كما فعلت دائما، كونها المانح الدولي الرئيسي للمساعدات الإنسانية للاجئين الصحراويين”.
يبقى في الأخير التّأكيد، بأنّ “كلّ احتلال إلى زوال مهما طال”، واستقلال الصّحراء الغربية آت لا محالة.