لم تفتر دعوتي للعالم العربي للاستدارة شرقا، لأن الشرق قادم لنا سواء رضينا أو لم نرض، وأدعو النخبة العربية الفكرية إلى الاستمرار في قرع جرس الشرق، وقد بنيت هذا التصور بعد انغماس في هذا الموضوع منذ منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكتبت فيه كتبا وبحوثا منشورة.
لقد تتبعت الأدبيات السياسية الصينية منذ تلك الفترة مع تركيز على كتابات النخبة الصينية الأبرز والأكثر قربا من دوائر صنع القرار السياسي، كما تتبعت بعض المجلات التي لها انتشارها في الحزب الشيوعي واللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب، ناهيك عن متابعة التيارات الفكرية الغربية الأكثر عناية بالاستراتيجيات الصينية.
وقد انتهيت في استنتاجاتي الأولية الهادفة لفهم كيف ومتى نستدير شرقا، إلى أن اقسم التوجهات الصينية في سياستها الخارجية المعاصرة إلى ما يلي:
أولا: تزاحم التوجهات الجيواستراتيجية الصينية، فثمة تيار يقوده المفكر الصيني وانغ جيسي (Wang Jisi) الأستاذ في جامعة بكين، وربما يكون الأكثر أهمية بين الباحثين الاستراتيجيين الصينيين، ويمكنني الزعم ان أطروحته ” March West” عام 2012، التي تنبأ فيها بان تركيز كل من الولايات المتحدة والصين على الشرق الآسيوي سيقود إلى صدام حتمي بينهما، لذا اقترح أن تتجه الصين غربا نحو غرب آسيا (وتضم منطقتنا العربية) للموازنة مع إستراتيجيتها نحو الشرق الآسيوي، وهو ما يعني أن نظرية وانغ هي التي تقف وراء مشروع الحزام والطريق، فعقب نشره دراسته مباشرة انفتحت الصين على أفغانستان ثم تم إنشاء المنتدى التجاري الاقتصادي العربي-الصيني في نفس العام، بل تم الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق في العام التالي لدراسة جيسي.
لكن النزوع الجيواستراتيجي لجيسي، يواجه معارضة من بعض واضعي الإستراتيجية الصينية تجاه الشرق الآسيوي مثل يانغ يي(Wang Yi) الذي يرى أن نظرية جيسي هي انحياز للاستراتيجيات البرية/ بينما يرى هوان الأولوية للصين هي في الانحياز للاستراتيجيات البحرية، وبالتالي التركيز على المحيطين الهادئ والهندي. دون ان يعني ذلك إغفال الإستراتيجية البرية بل العمل بموازاتها، وهو ما يعني ان التوجه نحو غرب آسيا متفق عليه بين المفكرين الصينيين.
ثانيا: متغيرات القوة بين الخشنة والناعمة، فمن ناحية نجد أن يانغ جيمين (Yang Jiemain) وهو من ذوي التأثير المعترف به في مراكز القرار يركز على دور القوة الاقتصادية في التحول في بنية النظام الدولي من أحادي القطبية إلى متعدد، وقد قمت بنشر دراسة علمية وقمت فيها بتطبيق معادلة ديفيد سنغر على البنية الحالية للنظام الدولي ووجدتها تتفق مع وجهة نظر يانغ جيمين بشكل كبير، لذا نراه في محاضراته يسعى لتعزيز توجهات الدولة لدفع برنامج التحديثات إلى الأمام، ويرى ان الصين ستساهم في تحول النظام الدولي الى متعدد القطبية من خلال ثقلها الاقتصادي بشكل رئيسي .
لكن تيارا مقابلا وله وزنه بقيادة المفكر Yan Xuetong يدفع باتجاه ما يطلقون عليه “الواقعية الأخلاقية” متجاوزين النموذج الأخلاقي المثالي، وداعين إلى الارتكاز علي هذا المبدأ في سياسة الصين المعاصرة، وتقوم الفكرة المركزية في هذا التصور على تخلي الصين عن فكرة عدم التحالف مع احد والتوجه نحو تحالف عسكري مع روسيا لمواجهة الخصوم، ومع تقبل الدوائر الرسمية الصينية للفكرة، إلا أنها تعمل على تكييفها لتكون شراكة لا تحالف مع روسيا، وهو ما قد يتناغم بقدر ما مع منظور الكسندر دوغين تجاه الصين، لكن هذا المنظور يتدعم بدعوات مفكر بارز في النخبة الصينية هو دنغلي شين (Dingli Shen) الذي يدعو منذ أكثر من عقد إلى “بناء قواعد عسكرية صينية ” في الخارج، والذي بدأت الاستجابة له بعد 3 سنوات من دعوته هذه، حيث تم بناء أول قاعدة عسكرية صينية في جيبوتي عام 2015، وهو ما يعزز نظرية وانغ يزهو(Wang Yizhou) صاحب نظرية الانخراط الخلاق والذي يدعو فيه الى إعادة نظر الصين في سياستها الخارجية بخاصة مبدأ عدم التدخل، ويرى ان العولمة جعلت التشابك بين المصالح وبناء علاقات غير صفرية في العلاقات الدولية أمرا يقتضي التدخل لمواجهة تداعيات العولمة ولا تصلح معها سياسة “عدم التدخل. ذلك يعني بالنسبة لمنطقتنا ان ” عسكرة المنطقة سيتواصل” ولابد من عقد الحوارات العلمية للبحث في كيفية التعاطي مع “السيد القادم”.
أدعو باحثينا للتركيز على دورتين هامتين في الشأن الصيني هما Global times وPacific Review The نظرا لأنهما الأكثر أهمية من حيث المضمون ومن حيث الكتاب ومن حيث مستوى تتبعهما بين صناع القرار السياسي الصيني في المستويات العليا تحديدا.
ومن الطبيعي عدم إغفال الكتاب الغربيين الذين تثبت تنبؤاتهم –بمستويات جيدة- معرفتهم العميقة بتوجهات المجتمع والحكومة الصينيتن مثل دراسات ديفيد لامبتون David Lampton – صاحب دراسة same bed different Dreams ودراسات David Shambaugh- صاحب دراسة china goes Global وغيرهم.
ان الجهل العربي بالصين خاصة والشرق الآسيوي عامة أمر محزن، والمعرفة في الشأن الدولي ليس أمرا بسيطا، وكما قال شوئن لاي الصيني ” ليس في السياسة الدولية أمر بسيط”، لذا أكرر دعوتي بالتنبه لهذا الموضوع، ولا نكرر إهمالنا للأكسندر دوغين الذي عييت وأنا أدعو لمتابعة أفكاره منذ قرابة الربع قرن.. إن الشرق الآسيوي قادم، وسواء تواصل الانحسار الغربي أو تثبت فيما تبقى له او كسب بعد المواقع في منطقتنا، فان أدبيات التفكير المستقبلي وهي كثيرة تؤكد أن الاستدارة العربية شرقا أصبحت مطلبا استراتيجيا.. لكني اعتدت على أن قومي “لم يستبينوا الرشدَ إلا ضُحى الغدِ “..