في كتابه “القفزة الأخيرة جنوبا” الصادر عام 1993 (أي قبل حوالي 30 سنة)، ينبه زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي الروسي فلاديمير جيرونوفسكي إلى الترابط الوثيق (من وجهة نظره) بين أمن روسيا وجنوبها، وتكاد ثلاثة دول تسيطر على تفكيره في هذا الاتجاه، وهي تركيا وإيران وجورجيا.
يصر جيرونوفسكي على أن غرب آسيا هي المشكلة الجيواستراتيجية الكبرى لروسيا (صفحة 45)، ويحدد وجهة هذه الإستراتيجية بقوله لابد بأي شكل من الأشكال من التواجد على شواطئ المحيط الهندي وشواطئ المتوسط (صفحة 63)، ويعتقد أن وسيلة ذلك هي وسيلة “عسكرية عبر الجيش الروسي وتمدده” (صفحة 65)، ولتغذية هذا التمدد الروسي جنوبا لا بد من إعادة الحياة لطريق الحرير الجديد للوصل بين الصين وأوروبا (الصفحات 70-71).
ويدعو جيرنوفسكي بشكل صريح إلى تقسيم العالم لمناطق نفوذ اقتصادية (تعطى الصين واليابان جنوب شرق آسيا، وتعطى أوروبا القارة الأفريقية، وتأخذ الولايات المتحدة أمريكيا الجنوبية وكندا، أما روسيا فلها جنوبها وبخاصة أفغانستان وتركيا وإيران (صفحة 75). ويعتقد أن التمدد الروسي جنوبا ستكون إسرائيل الأكثر معارضة له (صفحة 127).
الملفت أن جيرنوفسكي يشير بوضوح في كتابه الصادر قبل 30 سنة لتطورات جرت فعلا وكان يدعو لها:
أ- التغيرات التي جرت في أوكرانيا (صفحة 126).
ب- التغيرات في جورجيا وضرورة تغيير حدودها بالقوة العسكرية الروسية (وهو ما وقع عام 2008 فعلا) (صفحة 70).
ت- النزعة التركية لتزعم كتلة إسلامية في الشرق الأوسط (صفحة 130)، وهو يدعو لإفشال هذا النزوع التركي.
ويدعو للجم أي طموح تركي، ومن ضمن توصياته في هذا المجال العمل “لإنشاء دولة كردية”، ويطالب بمعاقبة تركيا على كل سياساتها على غرار ما جرى مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية (الصفحات 130-131).
ويحذر جيرنوفسكي من الزحف السكاني العربي في أوروبا وبخاصة فرنسا (صفحة 138)، ويطالب بالتعاون مع دوائر أوروبية للجم النفوذ اليهودي (نفس الصفحة).
ويتوقع جيرنوفسكي أن تواجه الولايات المتحدة مستقبلا نوعا من التفكك (الصفحات 119-123).
بقي أن نشير إلى أن جيرنوفسكي كان لمرتين نائبا لرئيس الدوما، وكان ترتيبه الثالث في انتخابات الرئاسة، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مباشرة، وفاز حزبه بربع المقاعد تقريبا، وله 56 مقعدا في الدوما الروسي الحالي، لكنه في توجهاته الخارجية هو الأقرب لحزب روسيا الموحدة(حزب بوتين)..
فإذا ربطنا بين كتاب جيرنوفسكي وكتابات الكسندر دوغين التي أشرت لها مرارا.. ثم التوجيهات الإستراتيجية لفلاديمير بوتين أدركنا أن النخب الروسية الحاكمة لديها رؤية إستراتيجية تم إعدادها منذ عقود..