في عام 1957 وضع ليون فيستنغر نظريته (عدم الاتساق المعرفي Cognitive dissonance) والتي جرى تطبيقها من قبل باحثي علم النفس السياسي على عدد من زعماء العالم مثل الرئيس الأمريكي السابق ريغان، والرئيس الباكستاني السابق يحي خان، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وأنور السادات…الخ.
تقوم نظرية فيستنغر على نقطة مركزية هي أن الفرد تسيطر عليه فكرة “مهيمنة” على منظومته المعرفية، وما أن يكشف الواقع أو البحث العلمي عن “عدم اتساق” تلك الفكرة مع معطيات الواقع أو ما يكشفه العلم، يميل الفرد لإعادة تفسير الواقع بطريقة تحايلية “تعيد الاتساق بين الفكرة المهيمنة وبين الواقع أو نتائج البحث العلمي”، فيشعر الفرد بأنه متسق ولا تناقض بين البعدين: فكرته المهيمنة والواقع أو ما يكشفه البحث العلمي.
ويعطي فيستنغر مثال المدخن الذي يدرك تمام الإدراك أن الدخان سبب للمرض وللإنفاق المالي ولتلويث البيئة.. الخ إلا انه يصر على التدخين، فإذا سألته لماذا تدخن ولديك كل هذه السلبيات عن التدخين..؟ هنا يبدأ في اختراع حيل لتبرير سلوكه المتناقض مع معطيات الكشف العلمي أو مع شواهد الحياة اليومية.
ومن أبرز تقنيات التحايل المعرفي هو:
أ- تفسير أي معلومة جديدة مناقضة لفكرة الفرد المهيمنة بطريقة تجعلها تبدو متسقة مع الفكرة المهيمنة.
ب- التشكيك في مصدر المعلومة الجديدة المناقضة للفكرة المهيمنة.
ت- اعتبار الاكتشاف الجديد أو الواقع المناقض للفكرة المهيمنة من باب “الحالة الشاذة” التي لا يُبنى عليها.
ث- البحث عن أية مؤشرات مهما كانت هامشية تتسق ومنظومتة المعرفية وفكرته المهيمنة ليتكئ عليها.
وقد تأملت كثيرا نظرية ليو فيستنغر عن عدم الاتساق المعرفي (cognitive dissonance) أثناء الإعداد لدراسة “النزعة التنبؤية في الفكر العربي”، وشدني حديث التيارات العربية كلها (الدينية والقومية والماركسية والليبرالية) عند فشل أي من هذه النظريات في ممارسة السلطة في العالم العربي (أو خارجه)، عن “أن المشكلة ليست في النظرية بل في التطبيق”، فبدلا من أن يقر هؤلاء بالثغرات في منظورهم الفكري، وبأنه لا يوجد فكر كامل وقادر على استيعاب التغير الهائل والمتسارع، فإنهم يفرون نحو “المشكلة في التطبيق لا في النظرية”، وهو أمر أعتقد انه حيلة معرفية ومكابرة.. فالتطور الفكري وأتساع قاعدة الإدراك ليست إلا نتيجة الإدراك لمثالب منظورنا المعرفي وتكييفه مع مستجدات المعرفة،فالتقدم يأتي من اكتشاف الخطأ، فالنظرية هي التجربة التي تتعلم من نفسها كما يقول الفيلسوف الفرنسي باشلار.
الماركسيون العرب عند انهيار النموذج السوفييتي أو زحف القسمات الرأسمالية للنموذج الصيني فروا نحو “الخطأ في التطبيق لا في النظرية”، والقوميون مع انهيار الناصرية والبعثية فروا للملجأ نفسه، والحركات الدينية تتصارع فيما بينها وبقسوة حول التطبيق وحلول معنى النظرية، وبعضها مضى على تأسيسه أكثر من قرن ولم ينجز شيئا، فأن صدمها الواقع بمعطيات لا تتسق ومنظومتها الفكرية فر نحو التأويل لخلق الاتساق، والليبراليون العرب –وهم الأقل تجربة- يصرون أن أخطاء النموذج الليبرالي الغربي هي في التطبيق لا في النظرية… وهكذا تتواصل لعبة التحايل المعرفي بإعادة إنتاج فكر يفر من “الإقرار بالتطور” نحو اكراه الواقع ليتسق مع الفكرة المهيمنة والمسيطرة على منظومته المعرفية..
فالعلم نظام مفتوح وغيره نظام مغلق..