موقف الجزائر من الأحداث الدولية الأخيرة حول ملف الصحراء الغربية، والقضية الفلسطينية، يثبت أن دبلوماسيتها ذات مبادئ لا تحيد. دبلوماسية تكرست ومازالت نصرة للقضايا العادلة، ونصرة المظلوم، إلى جانب الدعوة مجددا إلى إقامة نظام دولي عادل ومنصف.
هذا الثبات على المبادئ رغم تغير الأنظمة الدولية. من ثنائية إلى أحادية ثم متعدد (قيد التبلور) جعل من الجزائر طرفا موثوقا. ومن دبلوماسيتها ذات مصداقية. إذ تطلب وساطاتها في حل نزاعات، وتُقبل إن هي عرضتها.
من رحم المعاناة
تستمد الدبلوماسية الجزائرية مبادئها الثابتة من نضالها وكفاحها ضد المستدمر الفرنسي. فطيلة 132 سنة عانى الشعب الجزائري من ويلات المحتل الذي عاث فسادا في الأرض.
ومن رحم المعاناة خرجت أجيال ناضلت سياسيا وعسكريا ودبلوماسيا من أجل التحرر. واستطاع قادة ثورة نوفمبر مقارعة أعتى القوى الاستعمارية في القرن العشرين. وأخضعوها للتفاوض بحنكة دبلوماسية قل نظيرها رغم قلة الخبرة. وعلى تلك التجربة المريرة بنت الجزائر مبادئ سياستها الخارجية وضمنتها كل دساتيرها من دستور 1963 إلى التعديل الدستوري الأخير في 2020.
مبادئ ارتكزت على حق الشعوب في تقرير مصيرها. والالتزام بمساندة القضايا العادلة. وتغليب الحلول السّلمية ونبذ الحرب. واهم تلك المبادئ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار. وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الغير.
مبادئ لا تحيد
بقيت الدبلوماسية الجزائرية وفية لمبادئها منذ ثورة التحرير إلى اليوم. وتعلنها صراحة في كل مناسبة وموقف.
وتعبيرا عن تمسكها بمبدأ حق تقرير المصير، وعدم المساس بالحدود الموروثة عن الاستعمار، رفضت الجزائر التطبيع مع المحتل الإسرائيلي، وقالت إنها “لا تهرول للتطبيع”.
ورافعت في أروقة الأمم المتحدة لصالح القضية الصحراوية، عندما طبع النظام المغربي مع المحتل الإسرائيلي، مقابل اعتراف أمريكي بسيادته على الصحراء الغربية إثر تغريدة لا يعتد بها القانون الدولي.
واحتراما لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، التزمت الجزائر الصمت إزاء الحرب الروسية الأوكرانية. فامتنعت عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وعملا بمبدأ تغليب الحلول السلمية ونبذ الحرب، دعت الأطراف إلى حل النزاع بالطرق السلمية، ورفضت التعليق على أي من المتحاربين. ولم تساند الجزائر روسيا رغم علاقتها الإستراتيجية بهذه الأخيرة. رغم أن روسيا هي المزود الأول للجزائر بالسلاح.
وقبل ذلك رفضت إخراج جيشها للمشاركة في أي عمل عدائي ضد دول جوارها، في ليبيا ومالي، رغم الضغط الفرنسي على وجه الخصوص. الذي تبلور في عملية تيقنتورين، في 13 جانفي 2013، التي أريد بها- من بين ما أريد- ابتزاز الجزائر ودفعها إلى التورط في حرب يخفف بها المتورطون عن أنفسهم تكاليفها الباهظة.
متطورة وثابتة
تكيفت الدبلوماسية الجزائرية عبر تاريخها مع المرحلة التي تعيشها. أول مرحلة هي الدبلوماسية الثورية أثناء ثورة التحرير، هدفت إلى تدويل القضية الجزائرية وعزل العدو دبلوماسيا على المستوى الخارجي. وتوسيع دائرة الأصدقاء وجلب دعم مادي ومعنوي. واستنزاف العدو دبلوماسيا من خلال الضغط المتواصل في كل مناسبة. وفضح الممارسات الوحشية للمحتل الفرنسي وإيصال معاناة الشعب الجزائري للعالم.
الثانية هي الدبلوماسية التحررية ناضلت خلالها ودافعت عن الدول القابعة تحت الاحتلال. ثم دبلوماسية فك العزلة عن الجزائر خلال الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد في التسعينيات من القرن الماضي. حيث فرض على الجزائر حصار دولي غير معلن. وحاولت أطراف كثيرة التدخل في شأنها الداخلي وتأجيج الوضع، لكن تمسك الجزائر برفض التدخل في شؤون الغير حال دون حصول ذلك.
والثالثة دبلوماسية السعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار ويتجلى ذلك من خلال مختلف الوساطات التي قامت بها في فض نزاعات داخلية ودولية بدء بالنزاع الداخلي المالي عام 1990. إلى حل أزمة القرن الأفريقي وصولا إلى الأزمتين الليبية والمالية. حيث اقتنعت جميع الدول أن الحل لا يكون إلا سلميا.
من أجل نظام دولي عادل
وتعكف الدبلوماسية الجزائرية في الوقت الراهن على تحقيق نظام دولي جديد يتسم بالعدل والمساواة بين شعوب العالم. في عالم يتجه من الاحادية القطبية على متعدد الأقطاب. يطالب فيه المتضررون من الهيمنة الغربية بتغيير قواعد التسيير وإيلاء الاعتبار لبقية العالم الذي يمثل أكثر من ثلثي السكان.
وقال رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، قبل أسبوع، في كلمة خلال قمة “بريكس”: إنّ ما عايشه العالم من تجارب سابقة، يثبت أنّ انعدام التوازن على الساحة الدولية واستمرارَ تهميش الدول النامية ضمن مختلف مؤسسات الحوكمة العالمية، يشكّل مصدراً مؤكَّداً لعدم الاستقرار وغياب التكافؤ والتنمية.
وأكد الرئيس تبون أنّ “الجزائر التي تحتفل هذا العام بالذكرى الـ60 لاسترجاع استقلالها الوطني وسيادتها، تؤكد استمرارية نضالها لإعلاء هذه المبادئ الهامة وتحقيق أهدافها السامية نحو بناء نظام دولي جديد. وهو ما دعا الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في سبعينات القرن الماضي إلى ضرورة إرساء نظام اقتصادي عادل.
إن هذا التطور في مراحل الدبلوماسية الجزائرية لم يحيدها عن الثبات على مواقفها ومبادئها، التي تتطابق ومبادئ الأمم المتحدة المستمدة من القانون الدولي، وكذلك مبادئ المنظمات الدولية والإقليمية التي تنمي إليها.