قررت الحكومة الألمانية إداخال تغييرات جذرية على سياستها الخارجية عموما، والدفاعية خصوصا. فتحولت من سياسة دفاعية إلى سياسة هجومية، وترجم هذا التحول في طرح مطالب أمام حلف الناتو بهدف حماية أمنها القومي.
هذا ما يحاول كاتب المقال توضيحه.
تشهد الفترة الحالية تحولات هائلة في السياسة الخارجية الألمانية التي تميزت لعقود بالاستمرارية، والتوازن الدقيق، والتكيف البطيء مع الظروف المتغيرة، وتجنُّب العسكرة؛ حيث قررت الحكومة الألمانية زيادة ميزانية الدفاع للبلاد بدرجة كبيرة، وتوسيع الالتزامات داخل الناتو، وتقديم دعم عسكري صريح لأوكرانيا، وفرض عقوبات قاسية على روسيا.
ظروف
وتأتي تلك التحولات الكبرى مدفوعة بعدد من العوامل، لعل أبرزها الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا، والتحالفات الداخلية للحزب الحاكم في ألمانيا، وتراجُع نفوذ الجناح المؤيد لموسكو في الحزب الحاكم، وتوجُّه برلين إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، بالإضافة إلى تقارب برلين مع الإدارة الأمريكية الحالية.
وقد فرضت الحرب الأوكرانية واقعاً جيوسياسيّاً جديداً بالنسبة إلى السياسة الخارجية، حتى الدفاعية الألمانية؛ إذ وفرت توافقاً نادراً بين النخبة الحاكمة والشعب الألماني من أجل تبني تحولات جذرية إزاء تموضع برلين أوروبيّاً وعالميّاً.
وقد أعلن المستشار الألماني “أولاف شولتس” عن إحداث “تحول تاريخي” في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية؛ حيث أجبرت الحرب الأوكرانية أكبر اقتصاد في أوروبا على التخلي عن عقود من التردد في رفع مكانتها العسكرية، والتوجُّه نحو تعزيز ثقلها الإقليمي والدولي.
مظاهر التحول
يُمكن تناول أبرز التحولات الجديدة في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية تزامناً مع تطورات الحرب الأوكرانية الجارية؛ وذلك على النحو التالي:
1– زيادة ميزانية الدفاع الألمانية
في جلسة استثنائية للبرلمان الألماني يوم في 27 فبراير، وصف المستشار الألماني أولاف شولتس الهجوم الروسي على أوكرانيا بأنه “نقطة تحوُّل” تتطلب جهداً قوميّاً ألمانيّاً للحفاظ على النظام السياسي والأمني في أوروبا. كما أعلن شولتس عن تخصيص صندوق خاص للجيش الألماني بقيمة 100 مليار يورو لاستخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع، وأكد تخصيص أكثر من 2% من إجمالي الناتج الداخلي للدفاع سنويّاً من الآن فصاعداً.
2– توسيع الالتزامات داخل الناتو
سلط شولتس الضوء في خطابه على مساهمات ألمانيا في حلف الناتو والتزاماتها الموسعة، بما في ذلك وجودها الرادع في ليتوانيا، وإتاحة أنظمة الدفاع الجوي الألمانية للدول الأعضاء في أوروبا الشرقية. وشدد أيضاً على الدور النووي لألمانيا في الناتو، وأشار إلى أن الحكومة من المحتمل أن تحصل على مقاتلات إف–35 بدلاً من شراء طائرة إف إيه–18إي/إف سوبر هورنت المخطط لها مسبقاً. وعلاوة على ذلك، شدَّد المستشار الألماني على مسؤوليات برلين داخل الناتو، وحدد أيضاً هذه الإجراءات على أنها تضمن الأمن القومي لألمانيا، وهو ما يعد خروجاً عن أسلوب السياسة الدفاعية الألمانية.
3– تقديم دعم عسكري صريح لأوكرانيا
بالرغم من قيام العديد من الدول الغربية بتقديم السلاح لكييف في الأسابيع الماضية مع تزايد التوترات مع موسكو؛ رفضت برلين هذا التوجه؛ ما أثار موجة انتقادات واسعة لألمانيا. بيد أنه بعد أيام قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا، صرَّحت وزارة الدفاع بأنها ستوفر 1000 نظام مضاد للدبابات و500 صاروخ من طراز ستينغر المضاد للطائرات لأوكرانيا، وهو ما يعد موقفاً معاكساً لسياسة ألمانيا الطويلة الأمد ضد توفير الأسلحة لمناطق الأزمات.
4– فرض عقوبات قاسية على روسيا
ردّاً على الغزو الروسي لأوكرانيا، قرر شولتس وقف عملية التصديق على خط أنابيب “نورد ستريم 2” يوم 22 فبراير الفائت، كما أعلنت الحكومة الألمانية –التي تترأس مجموعة الدول السبع– استبعاد عدد من المصارف الروسية من نظام “سويفت”. ومن المتوقع أن تُسبب العقوبات ضرراً لألمانيا أيضاً؛ نظراً إلى أن روسيا تُعد واحدة من أكبر خمسة شركاء تُجاريين لألمانيا من خارج الاتحاد الأوروبي.
5– تنشيط السياسة الخارجية الألمانية
تسعى برلين في الوقت الحالي إلى تكثيف الجهود مع الحلفاء والشركاء من أجل مواجهة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وتأتي زيارة المستشار الألماني إلى إسرائيل في 1 مارس 2022، في إطار تلك الجهود؛ إذ أكدت وزارة الخارجية أن الزيارة تأتي في إطار جهود دولية لإنهاء الحرب الأوكرانية، خاصةً أن كييف كانت قد اقترحت إسرائيل وسيطًا مع موسكو. وفي سياق متصل، أبدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، في 28 فبراير 2022، موقفاً متحفظاً حيال سرعة انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، في ظل مُتطلَّبات مختلفة، مع التأكيد على أن “أوكرانيا جزء من بيت أوروبا”، وهو ما يعكس تزايد الاستقلالية في السياسة الألمانية إزاء بعض الحلفاء الأوروبيين الداعمين لسرعة انضمام كييف إلى الاتحاد.
6– تنويع مصادر الطاقة الألمانية
أعلن شولتس أن برلين –وهي مستورد رئيسي للغاز الطبيعي والنفط الروسي– سوف تسعى إلى تنويع مصادر الطاقة بها؛ من أجل تقليل الاعتماد على موسكو. ومع ذلك فإن تقليص الاعتماد الألماني على الغاز الروسي، الذي يمثل نصف الواردات الألمانية، سيكون أمراً ليس بالسهل لأكبر اقتصاد أوروبي، في ظل توقعات بتحقيق أهداف تغيُّر المناخ المرتبطة بتقليل الاعتماد على الطاقة التي تعمل بالفحم بحلول عام 2030. وفي هذا الإطار، أكد وزير الاقتصاد الألماني “روبرت هايبك” العضو البارز في حزب الخضر، أن ألمانيا بحاجة إلى اتخاذ خطوات مختلفة لتنويع مصادر وارداتها، بجانب العمل على تقليل استهلاك الوقود الأحفوري على المديين المتوسط والطويل، كما سيتم تمرير قانون مصادر الطاقة المتجددة (EEG) بحلول مطلع يوليو 2022.
دوافع محفزة
يُمكن تفسير التحول في السياسة الألمانية رغم دفاع المسؤولين الألمان –بإصرار– عن سياسات الوضع الراهن لفترة طويلة بعدة أسباب:
1– الحرب الروسية الشاملة على أوكرانيا
لعبت الحرب الأوكرانية الدور الأبرز في تحول السياسة الألمانية؛ حيث بذل شولتس وحكومته كل الجهود الدبلوماسية لتجنُب الحرب، بما في ذلك زيارة شولتس في 15 فبراير إلى موسكو، التي حاول خلالها إنقاذ اتفاقيات مينسك. ويبدو أن الحكومة الألمانية أدركت أن روسيا قد أغلقت مسارات الدبلوماسية بعد اعترافها بالمنطقتين الانفصاليتين شرق أوكرانيا، وإلغاء اتفاقيات مينسك ثم شن الحرب الشاملة على أوكرانيا.
2– التحالفات الداخلية للحزب الحاكم في ألمانيا
مهدت التحالفات السياسية الجديدة في ألمانيا الطريق لهذا التحول في السياسة الألمانية؛ حيث يحكم الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي ينتمي إليه شولتس مع حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر اللذين تُحرِّكهما القيم، وكلاهما يدافع عن موقف أكثر صرامةً ضد موسكو.
3– تراجُع نفوذ الجناح المؤيد لموسكو في الحزب الحاكم
دعا شولتس إلى إعادة تقييم نهج الحزب الديمقراطي الاجتماعي تجاه روسيا، القائم على أساس المصالح الاقتصادية المتبادلة، وإرث الحد من التسلح. وقد منح الغزو الروسي لأوكرانيا فرصة لشولتس لإعادة النظر في هذا النهج. يأتي هذا فيما تراجع نفوذ وحجج الجناح المُدافِع عن المواقف الروسية في الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وعلى رأسه المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر.
4– توجُّه برلين نحو تقليل الاعتماد على الغاز الروسي
لقد اكتسبت طموحات الحكومة الألمانية في مجال التحول إلى الطاقة النظيفة بُعداً للأمن القومي الألماني؛ فقد استغل وزير الاقتصاد والمناخ الألماني روبرت هابيك من حزب الخضر الأزمة الروسية، كمبرر إضافي لتسريع الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة وبناء شبكات الطاقة، كما صاغ شولتس هدف ألمانيا لبناء محطتين للغاز الطبيعي المسال “في أقرب وقت ممكن” كجزء من جهد وطني للتغلب على اعتمادها على الموردين الأجانب.
5– تقارب برلين مع الإدارة الأمريكية الحالية
يعود جزء من أسباب تحول السياسة الألمانية إلى ضغوط الإدارة الأمريكية؛ ففي البداية بنى الرئيس الأمريكي جو بايدن شراكة بشأن السياسة الروسية مع المستشارة السابقة أنجيلا ميركل من خلال البيان المشترك الصادر في يوليو 2021 بشأن أمن الطاقة، ثم بعد ذلك من خلال الدفاع عن نهج ألمانيا خلال زيارة شولتس في 7 فبراير الفائت إلى واشنطن. وقد واجه بايدن رد فعل عنيفاً من الجمهوريين وبعض الديمقراطيين، لكنه أدرك أن التغيير في سياسة ألمانيا تجاه روسيا يجب أن يأتي من برلين، ولا يجب أن تفرضه واشنطن. ومن ثم لم يستسلم الرئيس الأمريكي لدعوات فرض عقوبات أحادية على “نورد ستريم 2”.
6- ضغوط بعض الحلفاء الأوروبيين
واجهت الحكومة الألمانية انتقادات من جانب بعض الدول الأوروبية، في ظل تردد برلين في البداية، في مسألة استبعاد روسيا من نظام سويفت المصرفي، لاسيما وأن هناك بعض الدول الأوروبية التي تستخدم هذا النظام من أجل شراء الطاقة من الجانب الروسي، كذلك فقد كان هناك انتقادات من جانب بعض الدول الأوروبية لعدم مبادرة برلين بتعليق خط “نورد ستريم 2” مع موسكو، قبل أن تقوم الحكومة الألمانية في نهاية المطاف بالإعلان عن تعليق الخط بل والتأكيد على إمكانية الاستغناء تماماً عن الغاز الروسي في المستقبل القريب.
7- التغيُّر في توجهات النخبة الألمانية
تصاعدت الأصوات الداخلية المطالبة بضرورة تبني برلين تحولاً جوهرياً في سياستها الدفاعية والخارجية مع تصاعد الخطر الروسي القادم من الأراضي الأوكرانية، إذ كان هناك توافق بين أغلب السياسيين والعسكريين وحتى الرأي العام لاسيما مع تجمع ما لا يقل عن مائة ألف ألماني في وسط العاصمة برلين تنديداً بالغزو الروسي ضد أوكرانيا، وضرورة تبني الحكومة الألمانية سياسات صارمة من أجل مواجهة التحديات السياسية والأمنية المرتبطة بالحرب الأوكرانية على ألمانيا بشكل خاص وعلى القارة الأوروبية بشكل عام.
عقبات ماثلة
وفي الختام فإن التحولات الجارية في السياسة الخارجية والدفاعية الألمانية انطلاقاً من المخاطر التي أفرزتها الحرب الأوكرانية سواءً ما يتعلق بوحدة الأمن الأووربي في مواجهة موسكو، أو الارتدادات السلبية المرتبطة بملفيّ الأمن والطاقة في الداخل الألماني، وما تحتمه تلك التطورات من ضرورة إعادة النظر في السياسة الألمانية على مدار العقود الماضية، وتبني نهج جديد أكثر مرونة يعزز من فاعلية الدور الألماني على الصعيدين الأوروبي والعالمي، وهو مسعى من المرجح أن يتصاعد في المرحلة المقبلة، وبالتنسيق مع الحلفاء والشركاء سواء الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
المصدر: إنترريجيونال للتحليلات السياسية
ملاحظة: المقال يعبر عن موقف كاتبه.