ترجمت مقولة أرسطو “إن الطبيعة تكره الفراغ” في الأدبيات السياسية بنظرية عرفت بـ”سياسة ملء الفراغ”.
هذه السياسة انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد انحسار المد الاستعماري البريطاني والفرنسي في منطقة الشرق الأوسط وآسيا تحديدا، كما عملت بها أمريكا إبان الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي لبسط نفوذها على الدول السوفيتية المستقلة حديثا.
ومارست واشنطن سياسة الاحتواء والتي صاغها الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان والتي تنص على احتواء الاتحاد السوفياتي ومن بعدها روسيا في مناطق نفوذها. مورست نفس السياسة مع الصين وما الغزو الأمريكي لأفغانستان إلا محاولة استباقية لاحتواء الصين في مناطق نفوذها لكن الصين ليست الاتحاد السوفيتي.
يتساءل الصحفي الأمريكي بن هوبارد، في مقال في صحيفة نيويورك تايمز، عن سياسة بلاده في الشرق الأوسط والتي طغت عليها التدخلات العسكرية غير المدروسة في العقدين الأخرين.
واعتبر الكاتب أن كل خسارة لأمريكا هي بمثابة مكسب لبكين التي تسير وفق استراتيجية ملء الفراغ الأمريكي معتمدة على قوتها الناعمة ونفوذها الاقتصادي المتعاظم.
ويضيف الصحفي أنه في جانفي 2022 زار خمسة مسؤولين كبار من الملكية العربية السعودية الدولة الغنية بالنفط الصين لمناقشة التعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية. في حين لاتزال الولايات المتحدة الأمريكية غارقة في المستنقع العراقي تناقش مسألة سحب القوات والتي كان من المقرر لها أن ينتهي بشكل كامل مع نهاية العام المنصرم (ديسمبر 2021).
الصين وعلى عكس أمريكا تسير وفق استراتيجية مختلفة فهي لا تمتلك أي أعداء تقريبا في الشرق الأوسط وتسعى الى تعميق علاقاتها مع اصدقاء واعداء واشنطن في جميع أنحاء المنطقة على حد سواء.
الصين تملأ فراغا أمريكيا في أفغانستان
أحدثت الطريقة التي سقطت بها كابول في يد طالبان صدمة عالمية ووجهت الاتهامات للادارة الامريكية حول عدم قدرتها على تحمل المسؤولية بعد تدخل عسكري دام 20 سنة صرفت فيه أمريكا ما يقارب الـ1000 مليار دولار.
انتهزت الصين الفرصة ووجهت انتقادات لاذعة لواشنطن حول السبب الأصلي، الذي بررت به الولايات المتحدة استخدامها للقوة العسكرية، سواء ما يتعلق بمحاربة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان وفرض الديمقراطية على النمط الأمريكي وهو ما لم يحدث.
حتى الجيش الأفغاني الذي صرفت عليه واشنطن 80 مليار دولار بقوام ناهز الـ 300 الف جندي انهار في 10 أيام أما طالبان في فشل ذريع للمقاربة العسكرية في حل الأزمات والتي تبنتها أمريكا في آخر عقدين من الزمن.
وتعمل الصين حاليا على تعزيز علاقاتها بأفغانستان وإدراجها ضمن مشروعها الطريق والحرير لاسيما أن أفغانستان ستكون طريق رئيسي لأنابيب الغاز المستقبلية من إيران تجاه الصين وهو مشروع قديم قد يتم احيائه في أي لحظة، وتم تأجيل الحديث عنه بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان.
وتجدر الإشارة أن إيران تمتلك احتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي تقدر بـ 32 تريليون متر مكعب ما يضعها في المرتبة الثانية عالميا بعد روسيا.
الصين تتفوق بالأرقام
تشير إحصائيات البنك الدولي لسنة 2020 أن الصين هي الشريك الاقتصادي الأول للمملكة العربية السعودية حيث بلغ حجم الصادرات الصينية الى المملكة 27 مليار دولار وهو ما يمثل 18 ٪ من الصادرات الكلية، متفوقة على الولايات المتحدة الأمريكية والتي حلت ثانية بـ 17 مليار دولار وبنسبة لم تتجاوز 11٪.
وتستورد الصين من المملكة العربية السعودية 16٪ من حاجياتها النفطية بقيمة سنوية بلغت 28 مليار دولار وتعتبر الصين أكبر مستورد للنفط السعودي.
نفس الارقام تقريبا تتكرر بالنسبة للإمارات صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في الخليج العربي بعد السعودية حيث تعد الصين الشريك الاقتصادي الأول بصادرات بلغت قيمتها 39 مليار دولار فيما جاء الولايات المتحدة الأمريكية ثانية بـ 16 مليار دولار سنة 2020. وتستورد الصين بدورها 5٪ من حاجياتها من النفط من الإمارات بما يعادل 10 مليار دولار سنويا.
ونفس الشيء فيما يخص قطر والعراق وسلطنة عمان وكلها دول صديقة للولايات المتحدة الأمريكية إلا أن الصين فرضت تفوقها الاقتصادي بدون تواجد جندي صيني واحد في منطقة الشرق الأوسط.
في مجال الاسلحة، مازالت الولايات المتحدة الأمريكية الشريك الأول لدول الشرق الأوسط، خاصة السعودية حيث تستحوذ أمريكا على 60 ٪ من صادرات السلاح الى السعودية فيما لم تتجاوز نسبة الصين 1٪ سنة 2020.
وتفضل الدول النامية التعامل مع الصين لاسيما في المجال الاقتصادي باعتبارها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول ولا تمارس المشروطية السياسية كما يفعل الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن في حملته الانتخابية وكذلك في خطاب تنصيبه أن حقوق الإنسان ستصبح محور السياسة الخارجية لإدارته، لكن واقع الممارسة قد لا يعكس دائما هذه الشعارات والأمثلة كثيرة في هذا الصدد.
متى تضطر الصين لاستخدام قوتها العسكرية؟

يعتبر جون ميرشايمر، وهو أحد رواد المدرسة الواقعية، من أكبر المفكرين الأمريكيين الذين حذروا من الصعود الصيني وشككوا في نوايا بكين، لاسيما مسألة عدم استخدامها للقوة العسكرية.
يؤكد في أحد افتراضاته النظرية أن الصين ستضطر يوما ما لاستخدام القوة العسكرية لفرض نفسها كقوة مهيمنة في النظام الدولي، وهذا ما ينفيه المسؤولون الصينيون في كل مرة، وحسب ميرشايمر الأمر يتعلق بالنوايا والتي يصعب التنبؤ بها ومن هنا تتشكل المعضلة الأمنية.
الأرقام قد تدعم افتراض ميرشايمر حيث تشير الإحصائيات المتعلقة بالتسلح وميزانية الدفاع الصينية الى تطور كبير في الانفاق العسكري الصيني حيث انتقل من 22 مليار دولار سنة 2000 ليصل الى 252 مليار دولار سنة 2020 هذه الأرقام تزعج الغرب كثيرا فيما تراها بكين عادية وتتوافق مع نهضتها.
تجدر الاشارة الى أن الصين تعد ثاني دولة في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية (700 مليار دولار سنويا) في الإنفاق العسكري متجاوزة دول كبرى لاسيما روسيا، فرنسا واليابان.