أضحت أوكرانيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1991 مسرحا للصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب. زادت حدة هذا الصراع سنة 2004 بعد صعود قيادة جديدة للحكم في أوكرانيا ممثلة في الرئيس فيكتور يوشنكو الموالي للغرب فيما عرف بـ”الثورة البرتقالية“، وما تبعه بعد ذلك من نشوب أزمة الغاز الروسي، حينما هددت موسكو بوقف إمدادات الغاز عبر أوكرانيا والتي تمثل 80 بالمئة من صادرات الغاز الروسي نحو أوروبا.
حلقات الصراع لم تتوقف عند أنابيب الغاز، بل شملت شبه جزيرة القرم هذه المرة، التي ضمتها روسيا في مارس 2014، في إطار لعبة سياسية لم نعهدها على موسكو، وعادت القرم إلى أحضان الدب الروسي دون إطلاق رصاصة واحدة، في شبه تقرير مصير فرضته روسيا، على اعتبار أن سكان القرم من أصول روسية ويتكلمون اللغة الروسية.
كان جليا أن روسيا في السنوات الأخيرة غيرت من استراتيجيتها الدفاعية في مواجه للغرب وتبنت خيارات هجومية أكثر جرأة، أساسها توظيف كل أدوات القوة المتاحة، سواء القوة الاقتصادية متمثلة في الغاز الطبيعي كورقة ضغط أو القوة الناعمة المبنية على أساس توظيف البعد الهوياتي واستغلال المكون الروسي في دول أوروبا الشرقية ودعم الحركات الانفصالية الداعمة لروسيا، اضافة الى القوة العسكرية والتي تتفوق فيها روسيا على أوكرانيا وجيرانها المتمردين عليها في أوروبا الشرقية.وضم شبه جزيرة القرم يعد خطوة استباقية لروسيا ضد أي محاولة من الغرب لالحاق أوكرانيا بحلف الناتو، والرئيس بوتين لم يخف رفضه لهذا الضم واعتبره تهديدا مباشرا لأمن روسيا القومي وأن الرد سيكون قاسيا.
ملامح الصراع الروسي الأوكراني الأخير
الحرب غير المعلنة بين روسيا وأوكرانيا إنطلقت سنة 2004 ولو بوسائل رمزية وثقافية من تغيير لأسماء الشوارع في العاصمة الأوكرانية كييف، وتفكيك مئات من تماثيل لينين وإعادة تسمية عدد من الشوارع في جميع أنحاء البلاد.
ومنذ 2014، عاد تغيير أسماء الأماكن بقوة مثلا مدينة دنيبروبيتروفسك التاريخية في أوكرانيا تم تغيير اسمها من الثوري البلشفي غريغوري بتروفسكي؛ الى دنيبرو نسبة إلى النهر الذي يشقها. في كييف كذلك ، تم تغيير اسم شارع موسكو ليصبح على إسم البطل الوطني ستيبان بانديرا.
وسنت أوكرانيا قوانين تقضي بتقليص استخدام اللغة الروسية في الإعلام والتعليم واستبدالها بالأوكرانية.
الرد الروسي وإن بدا للبعض متأخرا، لكنه كان قاسيا ومدروسا بضم شبه جزيرة القرم، في خطوة فاجأت الغرب قبل الأوكرانيين، وردة فعل الأمريكيين دليل على حالة الذهول التي أصابت الغرب وحالة الافلاس الاستراتيجي حول الكيفية الواجب التعامل بها مع روسيا.
اكتفت أمريكا بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا والتي اتخذت احتياطاتها مسبقا حيث لم تتأثر بالعقوبات تقريبا، لاسيما وأن روسيا أعلنت نيتها تصفية كل أصول الصندوق السيادي الوطني من الدولار، وسيتم تبديلها باليورو والذهب واليوان الصيني. ويشكل الدولار 35 بالمئة فقط من أصول هذا الصندوق، وسعت روسيا الى تعزيز علاقاتها الاقتصادية بعيدا عن الغرب، تحديدا مع الصين وبقية الدول الآسيوية، ويبدو أن الروس حفظوا الدرس جيدا حينما أيقنوا أن أحد الأسباب الرئيسية لسقوط الاتحاد السوفياتي سابقا كان ضعفه الاقتصادي.
أمام أكبر تحد في هذا القرن
ما تعيشه أوروبا هذا الشتاء هو حالة استثنائية لم تعرفها القارة العجوز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حشود عسكرية روسية في حالة تأهب وآلاف الدبابات والصواريخ الجاهزة للإطلاق الموجهة ضد أوكرانيا والتي قامت بدورها بحشد قواتها استعدادا للغزو الروسي المحتمل.
حلف الناتو دخل سريعا على الخط وعلى لسان أحد مسؤوليه: “أكد أن الحلف دائما سيفعل ما يلزم لحماية كل حلفائنا والدفاع عنهم”، لكن السؤال الواجب طرحه هل حقا الحلف بمقدوره حماية أوكرانيا وهو الذي بقي مكتوف الأيدي أمام ضم روسيا لشبه جزيرة القرم سنة 2014.
يحاول الغرب منذ نهاية الحرب الباردة تطويق الدب الروسي وإن بدت هذه الاستراتيجية فعالة خلال العقدين الماضيين، لكن روسيا استطاعت الالتفاف عليها والتحول من وضعية الدفاع إلى الهجوم لاسيما وأن خريطة النفوذ العالمية في طريقها إلى التغيير تحديدا في المجال الاقتصادي وانتقال الثقل الاقتصادي العالمي الى آسيا.
شروط محددة وخطوط حمراء
بهذه العبارات الحادة هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب حول مساعيهم التمدد شرقا، وتعمل روسيا للدفاع عن موقفها وفق استراتيجية تعتمد على :
-
القوة العسكرية
تعد روسيا ثاني قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وما تقوم به حاليا على الحدود الاوكرانية هو استعراض للقوة وانشائها لقواعد عسكرية في شبه جزيرة القرم ونشر أسطولها في البحر الأسود.
وتحيط القوات الروسية الآن بأوكرانيا من جميع الجهات بما في ذلك في بيلاروسيا وTransnistria وهي منطقة مدعومة من روسيا في مولدوفا. انظر للخريطة.
خريطة توضح انتشار القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية
تعد روسيا أكبر دولة في العالم من حيث المساحة وجيش يتخطى تعداده المليون جندي وثاني أضخم قوة نووية في العالم وصاحبة طائرات السوخوي والمنظومة الدفاعية الأكثر تطورا.
أوكرانيا والتي تحتل المرتبة الـ25 عالميا في ترتيب أقوى الجيوش إن واجهت روسيا سيكون ذلك بمثابة انتحار، إلا إذا دخل الناتو على خط المواجهة وهذا أمر مستبعد حاليا ولو وقع فعلا فنحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة لاسيما وأن الناتو يمتلك ثلاثة ملايين جندي وترسانة نووية كافية لتدمير المجرة.
2- دعم الجماعات الانفصالية في أوكرانيا
بقيت أوكرانيا منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي منقسمة بين جهتين، الأولى ترى ضرورة البقاء تحت القبعة الروسية والتحالف مع موسكو، أما الثانية فترى في الغرب الحليف الأفضل للبلاد من الناحية الاقتصادية والامنية لاسيما في حالة الانضمام إلى حلف الناتو
تستغل روسيا المكون العرقي غير المتجانس في أوكرانيا لدعم الحركات الانفصالية الموالية لها لاسيما في إقليم دونباس والذي شهد مواجهات عنيفة بين المتظاهرين والانفصاليين والقوات الحكومية الأوكرانية، وحسب بعض المصادر، حصد الصراع الداخلي الأوكراني منذ عام 2014 13000 قتيلا .
3- ورقة الغاز الطبيعي
قررت روسيا في سنة 2011 بناء خط أنابيب جديد أطلقت عليه إسم ” نورث ستريم 2 ” يمر عبر بحر البلطيق وصولا الى الاراضي الالمانية، الغاية من الأنبوب واضحة فرض مزيد من الهيمنة على سوق الطاقة الأوروبي حيث تغذي روسيا أوروبا بـ 40٪ من حاجياتها من الغاز الطبيعي، كما يساعدها هذا الأنبوب على تفادي المرور عبر الاراضي الاكرانية والتي كانت تمر عبرها 80٪ من صادرات الغاز الروسي.
ويمكن أن ينقل أنبوب الغاز نورث ستريم 2 ما يقارب 50 مليار متر مكعب من الغاز سنويا وتم الانتهاء من أشغال تركيب الانابيب ومن المفترض أن يدخل الخدمة الفعلية هذه السنة.
ورغم المحاولات الأمريكية عرقلة تجسيد هذه المشروع منذ سنة 211 لكن كل محاولاتها باءت بالفشل حيث فرضت أمريكا عقوبات اقتصادية على روسيا وعلى الشركات العاملة في الانبوب لكن الخبرة الروسية الطويلة في مجال الغاز عبر شركتها غازبروم مكنتها من إتمامه رغم الضغوطات الأمريكية.
كما أن أمريكا لعبت ورقة الغاز الصخري من خلال استغلال مخزونها الضخم ( أكثر من 600 مليار قدم مكعب من احتياطات الغاز الصخري) وتوريده في شكل غاز مسال إلى أوروبا لتقليص من التبعية الأوروبية للغاز الروسي رخيص الثمن وهذا ما لم يحدث، لاسيما أن أسعار الغاز خاصة المسال منه عرفت ارتفاعا جنونيا بعد زيادة الطلب على هذه المادة الحيوية تحديدا في الاسواق الاسيوية والاوروبية بعد حالة الركود الاقتصادي التي عرفها العالم سنة 2020 جراء جائحة كورونا.
هل تغزو روسيا أوكرانيا؟
افتراض وقوع هذا وفق المعطيات الحالية، أمر صعب إلا في حالة إصرار الغرب على ضم أوكرانيا لحلف الناتو والقيام بذلك بشكل فعلي وهذا أمر مستبعد حاليا.
لكن ما يحدث بين روسيا والغرب، وهذا الزخم من الحشود العسكرية لم يشهده العالم منذ عقود، يدفعنا للقول أننا أمام تحولات في النظام الدولي من الممكن أن تفرز لنا عالم متعدد الأقطاب، يكون له أثر بالغ في تكوين المؤسسات الدولية الحالية، وليس مستبعد ظهور مناطق صدام جديدة بين الغرب وروسيا، سواء في مالي أو سوريا او ليبيا تعبر عن هذه التحولات.للمزيد : موقع فانوس