يعد موضوع التقارب الإسرائيلي من القارة الإفريقية موضوعا قديما، يعود بالأساس إلى منتصف القرن العشرين، غير أن هذه الفترة عرفت محطات متباينة لطبيعة العلاقات الإسرائيلية الافريقية، تراوحت بين تقوية العلاقات وتعزيزها تارة و تراجعها وانكماشها إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية تارة أخرى. فقد احتلت العلاقات الاسرائيلية الافريقية بديناميتها وتقلباتها مكانة هامة لدى الباحثين والمنشغلين خاصة بالشأن الإفريقي، إذ لطالما تصاعدت التساؤلات حول طبيعة المزايا والمكاسب التي تدفع بالطرف الإسرائيلي نحو الاستثمار في تعزيز الحضور إفريقيا، مقابل المنافع التي تحصيها الأطراف الإفريقية جراء هذا التقارب.
على الجانب الآخر، يرافق اهتمام الباحثين بتفكيك مسارات التقارب الاسرائيلي الإفريقي اشكالية موقع الدول الإفريقية العربية من هذا التقارب، بل محاولة كشف الاعتبارات الاسرائيلية الفعلية من الاهتمام بالقارة الإفريقية، وما قد ينتجه من تداعيات تمس بالتأثير الدول العربية، خاصة منها المشَكلة للفضاء المغاربي. فإذا ما ربطنا هذه الاعتبارات بمواقف الجزائر من الكيان الصهيوني وسياساته ( حتى خارج حدود القارة)، يحق بل يجب التدقيق في مسألة النوايا والأهداف المسطرة من هذا التقارب، وامكانية تأثيرها على مكانة الجزائر وأمنها، فقد تطرح التطورات الأخيرة بالمنطقة وتعزيز التواجد الإسرائيلي من الحدود الجزائرية عدة تساؤلات حول طبيعة الأهداف المرجوة لدى الطرف الاسرائيلي، فضلا عن تداعيات ذلك على الفضاء المغاربي والأمن القومي للجزائر.
بناء على ذلك، ستعالج هذه الورقة الإشكالية التالية: ما طبيعة الإطار الذي يمكن من خلاله فهم التقارب الإسرائيلي الإفريقي، وأي انعكاسات يطرحها على مستوى الفضاء المغاربي والأمن الجزائري تحديدا؟
نستند في معالجتنا لهذه الاشكالية على التساؤلات التالية:
- ضمن أي نمط تحليلي يمكن فهم الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الإفريقية؟
- ما طبيعة الوسائل والآليات التي عززت التقارب الإسرائيلي من القارة الإفريقية؟
- ما مكانة الدول الإفريقية العربية من هذا التقارب وما هي انعكاساته على الفضاء المغاربي والأمن الجزائري تحديدا؟
ننطلق في دراستنا من فرضية مفادها: تمنح البيئة الإفريقية مزايا كثيرة تسهل التقرب الإسرائيلي من القارة، كما تتيح فرصة لممارسة ضغوطات على الأطراف العربية المناوئة ضمن الفضاء المغاربي، وأن التقارب الاسرائيلي المغربي مؤخرا يصب ضمن هذا الإطار.
أولا: التمدد الإسرائيلي في إفريقيا: التاريخ والاعتبارات المحددة
تعود العلاقات الإسرائيلية الإفريقية إلى بداية خمسينيات القرن الماضي، وارتبط ذلك بظهور حركات التحرر من الاستعمار في عديد الدول الإفريقية، وقد شهدت هذه العلاقات مسارات من التغير ما بين التقارب، ثم انقطاع العلاقات، وصولا إلى مؤشرات من الانفراج والتقارب أكثر.
شهدت فترة الستينيات من القرن العشرين ازدهارا في علاقات إسرائيل مع معظم دول القارة الإفريقية، باستثناء الدول العربية ضمن القارة، أين تكثفت زيارات الاسرائيليين إلى إفريقيا، من خلال بعثات ضمت رجال أعمال ومستشارين، في مقابل زيارة آلاف الأفارقة لإسرائيل بغرض التكوين والدراسة في مجالات مختلفة. لكن سرعان ما انحصرت هذه العلاقات إثر المحطات الصراعية التي تسبب فيها الكيان الصهيوني في مواجهة الدول العربية، خاصة خلال حرب 1967 أو 1973، وهو ما اعتبرته عديد الدول الإفريقية تجاوز صارخ لإرادة الشعوب واحتلال للأراضي باستخدام القوة، فأخذت بذلك دول افريقية صديقة لإسرائيل في تضييق نطاق تقاربها مع إسرائيل، فيما قامت أخرى بقطع علاقاتها الدبلوماسية معها وإبداء مواقف معادية. وكان لتأثير بعض الدول العربية من خلال الضغوطات التي مارستها على الدول الإفريقية، مقابل الإغراءات المالية الممنوحة من طرفها.
لتعرف العلاقات الإسرائيلية وبعض العواصم الإفريقية تحسنا وفق مزاعم افريقية مستندة إلى انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء، وتوقيع اتفاق السلام مع مصر، إضافة إلى توقيع اتفاق أوسلو1. غير أن واقع الأمر أكد حاجة الدول الإفريقية المتزايدة إلى المساعدات المالية، والتي لا تغطيها تمام ما تقدمه الدول العربية، وهو الأمر الذي مكن إسرائيل من تعزيز تقاربها مع أكثر من أربعين دولة إفريقية، إذ يعتبر الكيان الصهيوني من أكبر المانحين والمساعدين للدول الإفريقية، وأن ما يميز هذا الدعم هو تنوعه حتى خارج المساعدات المالية، من خلال تقديم خبراء والمساهمة في تدريب وتأهيل اليد العاملة الإفريقية في مجالات حساسة لدى الدول الإفريقية، على غرار ميادين الطب، التعليم، الزراعة، مكافحة التصحر وتنمية مصادر المياه. وهي المجالات التي لم يكن بوسع الدول الإفريقية التفريط فيها 2.
ساهمت الممانعة التي مارستها عديد الأنظمة العربية في محاصرة التمدد الإسرائيلي في القارة السمراء، كما لعبت القوى المناوئة للغرب في تضييق الخناق على الأطماع الإسرائيلية في القارة، خاصة الاتحاد السوفييتي و الصين، غير أن انتهاء الحرب الباردة، وتحول موازين القوى نحو الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أعطى الضوء الأخضر للكيان الصهيوني في تجسيد مخططاته تجاه القارة الإفريقية، فاستغل الطرف الاسرائيلي- بدعم غربي- هذه التحولات لفرض وجوده اكثر داخل القارة وتوسيع نطاق شراكاته وتعاونه مع الدول الإفريقية.
انطلقت السياسة الإسرائيلية من مجموعة ثوابت سعت من خلالها إلى الحفاظ على أمنها القومي، فهي تعمل على توطيد وجودها كدولة طبيعية ذات سيادة، سيما أنها ولعقود من الزمن تعاني هاجس الإحاطة بفضاء إقليمي محفوف بالمخاطر، ضمن بيئة عربية رافضة لوجود الكيان في قلب المنطقة العربية. بناء على ذلك، يمكن الوقوف على أهم الاعتبارات التي أدرجت القارة السمراء ضمن أولويات الكيان الصهيوني، وجعلت منه مجالا حيويا يحرص القادة الصهاينة –منذ تأسيس الكيان- على ضمان حضور مؤثر و فعال ضمن دوائره. إذ وبالإضافة إلى اعتبار القارة الإفريقية ثاني أكبر قارات العالم بعد آسيا، فثمة عوامل استراتيجية و اقتصادية دفعت بإسرائيل إلى تأكيد وجودها بالقارة، فمن الواضح أنها تسعى لبناء قاعدة استراتيجية تؤمن هيمنتها ومحيطها الإفريقي، حيث عملت جاهدة على تحسين علاقاتها مع دول حوض النيل على اعتبار المكانة التي توليها لحول النيل الذي يعتبر من الأهداف الحيوية لإسرائيل، فوثقت هذه العلاقات من خلال توقيع معاهدات مع كل من إثيوبيا، كينيا، رواندا، إفريقيا الوسطى وتشاد، فضلا عن دورها في دعم حركة انفصال جنوب السودان، وهي بذلك تسير نحو تحقيق مصالحها الاستراتيجية المرتبطة بالتهديدات المفروضة من قبل عدد من الدول العربية، تحديدا من خلال نجاحها في تجاوز الحاجز الجنوبي الخاص بمناطق التماس العربي. ومقابل ذلك، حرصت إسرائيل على تعزيز علاقاتها مع دول شرق إفريقيا خاصة إثيوبيا، أوغندا وجيبوتي، والهدف من ذلك منع الهيمنة العربية على مجال البحر الأحمر.
كما يمكن إدراج الاعتبارات الأمنية ضمن طموحات الكيان الصهيوني في التواجد بالقارة الإفريقية، خاصة ما تعلق بضمان مصالح الحلفاء الغربيين وقواعدهم العسكرية في إفريقيا، إذ يعتبر من أولويات سياستها الخارجية والدافع نحو توطيد عمليات التعاون العسكري والاستخباراتي مع الدول الإفريقية. ناهيك عما تمثله القارة الإفريقية من أهمية اقتصادية و تجارية للكيان الصهيوني وحلفائه، فهي القارة التي تزخر بشتى أنواع الثروات و الموارد الطبيعية. غير أن اعتبارات الوجود و كسر حاجز الرفض العربي تبقى من الدوافع الأساسية للنشاط الدبلوماسي الإسرائيلي في القارة السمراء. فقد سعت إسرائيل دائما إلى تطوير نظريتها الأمنية التي تقف عند حدود الدولة، إنما تتمدد إلى خارجها، فتهدف إلى تطويق الأمن القومي العربي الذي يعتبر تهديدا لها، وذلك بوجود علاقات متينة مع دول إفريقية تعتبر العمق الاستراتيجي للعرب، وخلق وجود عسكري قوي في منطقة البحر الأحمر وحوض النيل 3.
فإذا نجحت الدول العربية في ما مضى أن تؤثر في توجهات الدول الإفريقية وكسبها حليفا استراتيجيّا لمناصرة قضاياها، خصوصا بعد حرب أكتوبر 1973، والحد من توسيع نطاق تقاربها مع الطرف الإسرائيلي، فأن هذا الأخير استطاع خلال العقدين الماضيين أن يعزز حضوره في إفريقيا، وأن يخترق الجدار الدبلوماسي العربي المتهالك في هذه القارة، ما دفع ببعض الدول الإفريقية نحو اعادة الاعتبار إلى علاقاتها ومواقفها من تل أبيب ، فكان لإسرائيل أن ربطت علاقاتها مع معظم الدول الإفريقية ما عدا اثني عشر دولة فقط4 . وهو ما ساعد إسرائيل على كسب المزيد من القبول والتأييد من خلال التصويت الأفريقي لصالح إسرائيل في الأمم المتحدة، أو الوقوف موقف الحياد في قضايا تتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي.
ثانيا: فرص ومجالات الاستثمار الإسرائيلي في علاقاته الإفريقية في التأثير على دول الفضاء المغاربي
وفقا للاعتبارات السالفة، و بالنظر إلى تطور الاهتمام الاسرائيلي بتجسيد أهدافه في مكانة مؤثرة وسط القارة الإفريقية، تبرز للعلن قضايا تمس انعكاسات هذا التقارب على واقع ومستقبل التفاعلات السياسية ضمن الفضاء المغاربي، وفي مقابل ذلك تكثر النقاشات والآراء حول الموقف الجزائري تجاه التطورات الحاصلة بالمنطقة المغاربية، وحول طبيعة التهديدات التي يفرضها التواجد الإسرائيلي على حدودها. إذ من الواضح أن استراتيجية التمدد الإسرائيلي على المستوى الإفريقي تجاوزت أهدافها المعلنة والمتمثلة أساسا في تأمين مجال حيوي يفك العزلة التي يعيشها الكيان منذ نشأته، ناهيك عن الاستثمار في المزايا الاقتصادية والتجارية التي تمنحها البيئة الإفريقية، وأخذت تمارس أدوارا وتخطط لمشاريع واستراتيجيات تهدف من خلالها إلى تجسيد نظريتها الأمنية القائمة على التفوق العسكري واكتساب الشرعية والتحكم في المنطقة، بهدف إخضاع ومحاصرة الدول العربية الإفريقية، خاصة منها تلك الدول التي تحمل مواقف معادية للمخططات الإسرائيلية. فلطالما حاولت استغلال وتعميق الخلافات العربية مع بعض الدول الأفريقية، وتهديد أمن الدول العربية المعتمدة على نهر النيل بمحاولة زيادة نفوذها في الدول المتحكمة في مياه النيل من منابعه، فضلا عن سياساتها طويلة الأمد لبناء علاقات سرية مع الأنظمة العربية، فقد اتبعت إسرائيل استراتيجيات مختلفة للوصول إلى الدول البعيدة عن صراعها الإقليمي (الإسرائيلي العربي) و خاصة تلك التي تشهد علاقاتها توترا وبرودة بحثا عن الاستثمار في خلافاتها لصالح الأهداف الإسرائيلية.
فمن الواجب التنويه إلى أهمية العمق الإفريقي وما يمثله في معادلة الأمن والاستقرار لدول إفريقية العربية، فعلى قدر ما تكون افريقيا عمقا استراتيجيا وحيويا مهما لها، لوجود روابط تاريخية وثقافية وعلاقات اقتصادية تجمعها، فإنها في المقابل قد تمثل تهديدا على أمن واستقرار الدول العربية إذا ما تم استغلالها و توجيهها وفقا لمشاريع ومخططات قوى كبرى معادية، وهو المدخل الذي استثمر فيه كثيرا الطرف الإسرائيلي، إذ وفي إطار سعي إسرائيل لمحاصرة العالم العربي وإضعافه، فإن التغلغل أكثر و فرض الهيمنة في قلب إفريقيا يمثل فرصة ثمينة وورقة رابحة في يد الطرف الإسرائيلي للضغط أكثر ومحاصرة الدول العربية ضمن هذا الفضاء الإفريقي، بالنظر إلى أهمية ومكانة العمق الإفريقي لدى الدول العربية خاصة منها حركة المرور عبر البحر الأحمر، وضمان تدفق مياه نهر النيل، والعلاقات الحدودية مع شمال أفريقيا العربية، بسبب التداخل الكبير في هذه القضايا بين العالم العربي وأفريقيا.
تعرف العلاقات الاسرائيلية مع دول شمال افريقيا و المغرب العربي تحديدا نوعا من التباين واللا استقرار، فهي تميل أكثر إلى عدم البروز في شكل علاقات رسمية و معلنة، إذ تربط اسرائيل علاقات جيدة وغير معلنة مع بعض الدول المغاربية، سواء مع المملكة المغربية أو موريتانيا أو حتى تونس في مراحل معينة، فيذكر أن كلا من موريتانيا وتونس قد جمعتهما علاقات دبلوماسية مع الطرف الإسرائيلي ظهرت من خلال اجتماعات رفيعة المستوى لمسؤولين في هذه الدول وهو الأمر الذي يبدو غريبا لدى الكثير من المهتمين، بالنظر إلى عدم وجود علاقات معلنة ورسمية بين الأطراف، غير أن القوى الغربية الحليفة لإسرائيل، دفعت بقوة نحو هذا النوع من العلاقات بحكم نفوذها وتأثيرها على مستوى الأنظمة الحاكمة في دول شمال إفريقيا، ومع ذلك يبدو أن العلاقات الإسرائيلية التونسية باتت شبه مستحيلة، خاصة مع التوجهات التي أبدتها القيادة الجديدة للبلاد ممثلة في الرئيس قيس سعيد، الذي كثيرا ما شدد سواء من خلال حملته الانتخابية، أو بعد توليه قيادة تونس من أن أي شكل من أشكال العلاقات مع اسرائيل يعتبر خيانة للقضية الأم لدى العرب والمسلمين أي القضية الفلسطينية.
أما على مستوى المملكة المغربية فالأمر يختلف بعض الشيء، إذ يعلم العام و الخاص بخصوصية العلاقات المغربية الإسرائيلية، والتي تقف الاعتبارات التاريخية، الاستخباراتية والتجارية محددا لها. بدأت العلاقة المغربية الإسرائيلية تبرز نسبيا مع العدد الكبير لليهود في المغرب قبل ولادة إسرائيل في عام 1948، حيث أن الكثير منهم اتخذ من المغرب الأقصى ملاذا له جراء محاصرتهم و التضييق عليهم في بلاد الأندلس قبل قرون من الزمن، ثم أخذ الكثير منهم في الهجرة إلى إسرائيل بعد عام 1948، وهم بذلك يشكلون نسبة معتبرة من سكان إسرائيل، بالإضافة إلى وجود علاقات تجارية مشتركة بين الطرفين، ناهيك عن السماح للسياح الإسرائيليين الدخول إلى الأراضي المغربية مع تسهيلات عديدة تمنح لهم. دون إهمال الجانب الاستخباراتي والعسكري ضمن مجالات هذه العلاقات، فقد جمع الطرفان تعاون سري وثيق منذ عقود في المسائل الاستخباراتية والعسكرية، حيث قامت إسرائيل بمساعدة المملكة المغربية في الحصول على أسلحة ومعدات خاصة بميدان جمع المعلومات الاستخباراتية والتدريب على استخدامها، وفي المقابل قدمت المملكة معلومات استخباراتية حساسة للطرف الإسرائيلي، مست عمليات تجسس على دول عربية أخرى خلال اجتماعات الجامعة العربية، وفق ما كشفت عنه معلومات وتقارير مسربة عن سماح المملكة المغربية للموساد بالتنصت على غرف الاجتماعات والأجنحة الخاصة، ما أعطى الطرف الإسرائيلي تصورا واضحا عن نمط التخطيط العربي وطبيعة القدرات المتوفرة، والذي اعطى إسرائيل مزايا معتبرة في الاستعداد لحرب 1967. كما يذكر أن مظاهر العلاقات المغربية الإسرائيلية برزت من خلال مكاتب الاتصالات والتنسيق المتبادلة بين البلدين ضمن إطار مجابهة المد والتأثير الإيراني وتأثيره على مصالح الطرفين، إذ يتهم المغرب إيران بدعمها لجبهة البوليساريو
مثلت التطورات الأخيرة في منطقة المغرب العربي، تحولا خطيرا في مسار العلاقات البينية لدول المنطقة، فقد شكل التقارب المغربي الإسرائيلي من خلال قرار المملكة المغربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل عائقا آخر في وجه أي فرصة لترميم البيت المغاربي، فمقابل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بسيادة المغرب على الأراضي الصحراوية، وثقت المملكة المغربية علاقاتها بالكيان الصهيوني. وفي واقع الأمر، يمكن ربط هذه التطورات بآثار مرتقبة سواء على مستوى العلاقات البينية لدول المغرب العربي، وخاصة منها العلاقات الجزائرية المغربية، بالنظر إلى اعتبار مسألة الاعتراف “بمغربية الصحراء الغربية” تعد طعنا في مصداقية المواقف والجهود المبذولة من طرف الجزائر في تجسيد موقف الأمم المتحدة بإقرار حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، تماشيا مع ما تستدعيه الشرعية الدولية.
وعلى الصعيد التونسي، يمكن اعتبار التطورات الحاصلة بالمنطقة نقطة تحول في العلاقات المغربية التونسية بالنظر إلى المواقف التي عبر عنها الرئيس التونسي قيس سعيد، فعلى الرغم من تحفظ القيادة التونسية في إبداء مواقفها تجاه مسار التطبيع لدول عربية مع الكيان الصهيوني، وذلك لاعتبارات سياسية مصلحية، تلزم المواقف التونسية بالحياد تجاه هذه المسألة حفاظا على استقرار نظام الحكم في تونس المهدد من طرف قوى خارجية خاصة منها الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية، فإن ثبات موقف القيادة التونسية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية قد يدفع نحو برودة العلاقات التونسية المغربية. وهو ما يعتبر مؤشرا على اضطراب العلاقات المغربية.
على نطاق آخر، فإن التقارب المغربي الإسرائيلي، يدفع بإلحاح نحو النظر بجدية إلى مخاطر ذلك على الأمن القومي الجزائري. إذا وضعنا بعين الاعتبار تضارب المواقف الجزائرية الإسرائيلية في عديد القضايا الدولية أو الإقليمية وخاصة القضية الفلسطينية.
ثالثا: تأثير التقارب الإسرائيلي الإفريقي على الأمن القومي الجزائري
عرفت الجزائر وعبر عقود من الزمن بثبات مواقفها تجاه القضايا العادلة عبر العالم، وبدعمها اللامشروط للقضايا العربية والإسلامية، على غرار القضية الفلسطينية التي شكلت عبر الزمن واحدا من أهم المبادئ التي خطت نهجها السياسي. وتجلى ذلك بعدم وجود أي ارتباطات رسمية أو خفية بين الجزائر والكيان الصهيوني، ويظهر ذلك من خلال المواقف المعادية والمناهضة للمخططات الصهيونية في صراعها مع الشعب الفلسطيني، فكثيرا ما ترددت عبارات التنديد والعداء في خطابات القادة الجزائريين خلال المحافل الإقليمية أو الدولية. الأمر الذي يؤكد ثبات المواقف الجزائرية تجاه القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من الضغوطات التي مارستها القوى الحليفة لإسرائيل في محاولة إثناء الموقف الجزائري عن ثبات عدائه الدائم لإسرائيل، إلا أن الجزائر لم تقدم أي تنازلات على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، بل بالعكس من ذلك، مثلت الجزائر الدولة الوحيدة التي لم تمنع مساعداتها عن الشعب الفلسطيني إلى يومنا. هذه المواقف التي وضعت الجزائر ضمن المخططات الغربية الصهيونية الرامية لكسر حاجز الممانعة والمقاطعة الجزائرية لإسرائيل. فكانت الجزائر ضمن قائمة الدول المستهدفة بثورات الربيع العربي، في محاولة لإلحاق الجزائر بالدمار الذي خلفته الثورات العربية، وبعد فشل هذه المخططات فرض على الجزائر مواجهة بيئة إقليمية مشتعلة جراء تدهور الأوضاع الأمنية على طول الحدود الجزائرية، وما خلفته من تهريب للأسلحة وتحركات مشبوهة للجماعات المسلحة، جعلت الأمن الجزائري على المحك. ناهيك عن محاولات نقل الاضطرابات إلى داخل التراب الجزائري، وكانت أحداث تيقنتورين خير دليل على ذلك.
لتستمر المخططات و المشاريع الصهيونية المستهدفة للأمن القومي الجزائري، من خلال محاولات ضرب الوحدة والتماسك الداخلي، وفرض نمط التفكيك و التمزيق للبناء المجتمعي الجزائري، إذ استهدف الكيان الصهيوني وحلفاؤه الغربيون جر الجزائر نحو حرب أهلية بدعوى تحريك النعرات العرقية، حيث راهنت على فرصة الاضطرابات التي عاشتها الجزائر خلال حراك الشعب الجزائري الذي العهدة الخامسة للرئيس السابق في لعب ورقة الصراعات الطائفية والعرقية داخل المجتمع الجزائري، فمن خلال محاولات اختراق الحراك الشعبي، ودس شعارات تدعو للتفرقة والتشرذم، وسعت بذلك إلى ترسيخ منطق العداء والانقسام، مثلما تم توظيف ذلك أثناء أحداث غرداية التي عرفت مواجهات بين العرب المالكيين والأمازيغ الإباضيين.
فعلى الرغم من فشل هذه المخططات، لا يزال هناك تمسك بإمكانية ضعف التماسك المجتمعي في الجزائر، وتوجيه الشارع الجزائري نحو المزيد من الضغوطات على السلطة، واستثمار ذلك في زعزعة الاستقرار الجزائري ونشر الخلافات العرقية، بالاستعانة ببعض المنظمات الداخلية الموالية، وبقوى خارجية على غرار فرنسا وعملائها.
أمام هذه المعطيات، وجب التنويه إلى مخاطر التواجد الإسرائيلي على الحدود الجزائرية، وتأثير ذلك على الأمن القومي الجزائري، فالتقارب الإسرائيلي المغربي، من شأنه إضفاء المزيد من فرص النجاح للمخططات الرامية لإضعاف المواقف الجزائرية، فعلى خلفية التطبيع المغربي مع إسرائيل، أصبح الحديث عن احتمالية إقامة قواعد عسكرية إسرائيلية على الحدود الجزائرية، وقد يتجسد ذلك من خلال المعلومات التي أكدت إلى حد كبير استغلال الكيان الصهيوني لسفارة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العيون المحتلة، كمركز مراقبة وتجسس استخباراتي إسرائيلي.
بناء على ذلك، وجب الوقوف على قناعة راسخة بأن الجزائر هي المستهدف الأول من هذا التطبيع، بسبب مواقفها الداعمة للشرعية الدولية، فالنظام المغربي يراهن على تحالفاته مع القوى الغربية لضرب الاستقرار الجزائري، وهو ما يتوافق مع طموحات الكيان الصهيوني في تفكيك منطقة المغرب العربي وشمال افريقيا، خاصة مع تنديد الجزائر بمسار التطبيع العربي مع الطرف الإسرائيلي، و رفضه لصفقة الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الأراضي الصحراوية. وعليه، من الطبيعي التفكير على المستوى الجزائري في استحداث وتفعيل آليات مواجهة لأي تهديدات محتملة، انطلاقا من ترميم البيت المغاربي وتثمين مسارات التنسيق والتعاون بين وحداته، والحرص على قمة اليقظة وتأمين الحدود داخليا، مع ضرورة العمل على تعزيز التحالفات الإقليمية والدولية مع القوى التي تشارك الجزائر اهتماماتها وتتقاسم معها وجهات النظر و المواقف تجاه عديد القضايا. فالأخطار وإن لم تظهر علنا، فإنها موجودة وتمثل حقيقة وجب التكيف الإيجابي تجاهها.
خاتمة
حاولنا من خلال هذا العمل المتواضع تسليط الضوء على حقيقة الاعتبارات المحددة للاهتمام الاسرائيل بالقارة الإفريقية، وكيف ركز الكيان الصهيوني جهوده لبلوغ مكانة مؤثرة في قلب القارة السمراء، سعيا لتثبيت حضوره ككيان يعاني العزلة إقليميا ودوليا، حيث وفرت البيئة الإفريقية مزايا تعاون لم تتسنى للطرف الإسرائيلي ضمن فضاءات جغرافية أخرى. الأمر الذي مكن الطرف الإسرائيلي من ضمان انتشار واسع بين دول القارة، بعلاقات مع غالبية دولها.
ولم تتوقف المساعي الإسرائيلية عند الأهداف المعلنة من هذا الانتشار، وإنما أبانت عن مخططات تحمل نوايا الاحتواء والسيطرة، بهدف لعب أدوار فاعلة ضمن القارة، فكانت منطقة شمال إفريقيا ضمن الدوائر المستهدفة من التغلغل الإفريقي، والتي تقف وراءها رغبة إسرائيلية في كسر حاجز الممانعة الذي يميز دول الفضاء المغاربي تحديدا، وبخاصة المواقف الجزائرية التي كثيرا ما سارت عكس المصالح الإسرائيلية. لذلك يمكن القول أن من الأهداف الإسرائيلية الغير معلنة من وراء الاهتمام المتزايد بنسج علاقات مع الدول الإفريقية، إنما هي محاولات عزل التحركات الجزائرية الرافضة للمشاريع و المخططات الإسرائيلية ومن ورائها الحلفاء الغربيون. إذ أظهرت المواقف الجزائرية ثباتا في معارضتها للسياسات الإسرائيلية سواء منها ما تعلق بالتعدي على حقوق الشعب الفلسطيني، أو تلك المرتبطة بالضغوطات الممارسة على عديد الأنظمة العربية للاعتراف بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه. فعلى الرغم من تباين العلاقات الإسرائيلية مع دول المغرب العربي، نجد أن الجزائر تمثل الطرف الوحيد الذي لم يبلور أي نوع من العلاقات مع إسرائيل لا على المستوى الرسمي ولا في الخفاء، عكس بقية الدول المغاربية التي جمعتها في فترات معينة علاقات غير معلنة معها، وبحثا عن الانتقال بهذه العلاقات من السر إلى العلن، وجهت إسرائيل مخططاتها لتفكيك الفضاء المغاربي، و القضاء على أي فرص لإعادة ترميم تجربته التعاونية التي ولدت ميتة بفعل التأثيرات الغربية، و زاد في تهالك بنيانها نجاح الطرف الإسرائيلي في فرض منطقه التهديمي سواء من خلال تحفيز الدول الإفريقية بمنافع التعاون معه واقناعها بالاستغناء عن حاجتها إلى الدول العربية، وهو ما فرض عزلة على الدول العربية ضمن محيطها الإقليمي، وفي مقابل ذلك، عملت على توطيد الخلافات البينية لدول المغرب العربي، فكانت سياسات التطبيع المغربية الضربة القاضية لأي أمل في تفعيل تجربة التعاون المغاربي.
وأمام حقيقة الاقتراب الإسرائيلي من الحدود الجزائرية، بات من الضروري التفكير في سبل مواجهة أي تحديات يفرضها، من خلال صياغة استراتيجيات تمكن الجزائر من صيانة أمنها القومي ضد أي تهديدات محتملة، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال تقوية البناء الداخلي، وتسوية الخلافات العالقة، وتوحيد الجهود في إبداء تكيف إيجابي مع أي تطورات ممكنة، مع ضرورة الاهتمام بتطوير وتفعيل آليات التنسيق والتعاون بين دول الفضاء المغاربي، ومحاولة تحييد عوامل الاختلاف والتأسيس لروابط متينة، من شأنها تقوية الموقف المغاربي، إذ ينبغي على دول المغرب العربي أن تدرك بأن مسألة تحقيق الأمن لم تعد مرتبطة بمجموع الإجراءات المتخذة محليا، بل إن أمن أي دولة يرتبط بنيويا ووظيفيا مع أمن دوائرها الجيوسياسية.
الدكتور إبراهيم بن دايخة
متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، جامعة قسنطينة3
الهوامش
- آريه عوديد، العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، ترجمة: عمرو زكريا خليل، المؤسسة المصرية للتسويق والتوزيع، القاهرة، ط1، 2014.
- نفس المرجع ص 13.
- محمد سعيد، الدبلوماسية الإسرائيلية في إفريقيا إلى أين؟، مركز السلام للثقافة الدبلوماسية ، على الرابط: .http://bit.ly/2RScESf
- Gaffey Conor, Who Are Israel’s Allies and Enemies in Africa? The Newsweek, 7 August 2017, http://www.newsweek.com/benjamin-netanyahu-israel-enemies-and-allies-africa-620733