في عالم سريع التحول ومعقد من حيث أبنيته، وتركيبة المصالح والقيم، ومتشابك ومتداخل في أنماط التفاعلات السائدة فيه، وتُميزه حركية في اكتساب القوة وتحولها وتغير موازين القوى، تجد الدول نفسها مجبرة على حسن التعامل مع ديناميكية التحولات الحاصلة، وضرورة القراءة الجيدة للوقائع، وواجب البحث في التداعيات والمسارات المحتملة لأي عملية تغيير متوقعة، من خلال الوقوف على مؤشرات تلك التحولات، وتحليلها بعمق يُمَكنها من استجلاء مآلاتها، استعدادا للتخندق الجيد في مواجهة الانعكاسات الواردة، ورسم الاستراتيجيات الكفيلة بأخذ موطئ قدم حيوي في أي هيكلية دولية قادمة.
الجزائر وتحول القوة عالميا.. من أجل رسم سياسة متماسكة للاتجاه شرقا
العديد من المؤشرات وفقا للكثير من الدراسات تدل على أننا أمام نذر تحولات في ميزان القوة عالميا، خاصة بانتقال مركزها سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا من الغرب نحو الشرق، وتحول فضاءات التفاعل الأهم من الأطلسي إلى الهادي، وتآكل قوة الغرب تدريجيا وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، وصعود قوى أخرى ساعية لاستعادة دورها التاريخي والحضاري من جديد، في شاكلة الصين والهند وروسيا، والجزائر مطالبة بمواكبة هذه الصيرورة التحولية إذا كانت تطمح فعلا لأخذ مكانة تليق بإمكاناتها ورصيدها الثري من المقومات المختلفة، ولذلك يأتي هذا الطرح ليوضح باقتضاب أهم مؤشرات انتقال القوة وتحولها من الغرب نحو الشرق، وكيفيات التعامل الجزائري مع هذه الحركية القائمة، والاستعداد للتموضع في العالم الجديد الذي يتشكل، وإعادة النظر في أسس العلاقات التقليدية التي سيطرت على السياسة الخارجية الجزائرية طويلا، ببلورة سياسة واعية ومتكاملة للتوجه شرقا، وتطوير منظومة العلاقات التي تربطها بالدول الواقعة هناك للارتقاء بها نحو منظور إستراتيجي متسق، وليس مجرد علاقات بينية متفرقة، ويكون ذلك انطلاقا من الافتراض بأن كل مرحلة تغيير تتطلب تجديدا في الفكر والعقيدة الاستراتيجية والدبلوماسية.
أولا- أهم مؤشرات ومظاهر تحول القوة من الغرب نحو الشرق
من السنن الكونية سنة التغيير والتداول وعدم الثبات لمختلف العوامل والمحددات، بما في ذلك القوة التي لا تستقر على حال على الصعيد الدولي، وهو ما يفسر تعاقب الدول والإمبراطوريات المختلفة ما بين صعود وهبوط، في ظل صيرورة تاريخية أشبه بالحتمية، التي تقتضي تراجع أي قوة مهما بلغت من جبروت وتوسع، تحت وطأة منافسة قوى أخرى طامحة للهيمنة وزحزحة القوى المسيطرة، أو حتى تحت تأثير ظروف الانقسام الداخلي والعوامل المناخية والطبيعية، لذلك يزخر التاريخ بالشواهد عن قوى أضحت هامشية أو حتى منسية بعد أن كانت تسود العالم، فانحصرت إيطاليا في حدودها الطولية الضيقة بعد أن كانت منطلقا للإمبراطورية الرومانية العظيمة، وتوارت اليونان خلف أمواج بحر إيجة ومجموعاتها الجزرية المتناثرة، وهي التي كانت يوما منارة الفكر والفلسفة وأثرت حتى في ثقافة روما، وانهارت الدولة الإسلامية واسعة الأرجاء، مخلفة وراءها دولا متفرقة تناهشتها الأمم والقوى الاستعمارية، وتحولت الإمبراطورية النمساوية إلى دولة صغيرة أُلحِقَت في وقت من الأوقات بالأمة الألمانية، وعانت الصين من تبعات ومآسي قرن الذل لعقود طويلة بعد أن كانت أعرق حضارات العالم.
فتعددت فترات الهيمنة وفرض السلام بحسب قواعد كل قوة مهيمنة، وتصوراتها للأسس التي يجب أن تقوم عليها أنماط التفاعلات الدولية برعايتها وتحت رقابتها وسلطتها قدر الإمكان، فساد السلام الروماني مستندا إلى قوة روما الضاربة وقانون الشعوب والمنتظمات السياسية والإدارية والقانونية المتينة، والسلام الإسلامي في ظل دولة ممتدة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، بثنائية قوة ناعمة مأخوذة من مبادئ الإسلام العالمية، وقوة صلبة فتكت بالمناوئين من القوى الكبرى آنذاك الروم والفرس، وصولا إلى السلام البريطاني الذي أسست له إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ثم السلام الأمريكي الذي تحاول الولايات المتحدة فرضه منذ إطاحتها بمنافسها الشيوعي العنيد، فذلك هو المبدأ الذي يحكم كل فترة هيمنة عالمية لقوة أو قوى معينة، الأقوى هو من يفرض قواعده.
ولأن القوة محل صراع دائم فالتبدل في المواقع والأدوار دوليا أمر وارد بشكل حتمي، ولكي يحدث تحول للقوة يتعين على الفاعل الجديد الراغب في انتزاع الهيمنة، أن يحصل على مصادر للقوة أكبر مما لدى القوة المهيمنة التقليدية أو تقترب منها وتعادلها، ويبين مفهوم تحول القوة كيفية بدء عملية فقدان القوة المهيمنة لسيطرتها لصالح متحدٍ صاعد جديد، ويحدث هذا التحول في ميزان القوة بسبب التغيرات التي تطرأ على مستوى الموارد والمصادر والمقومات بين القوة الآفلة وغريمتها الصاعدة، والتي تكون مرفوقة بحالة عدم رضى شديدة على الأوضاع الدولية، وعلى سياسات القوة المهيمنة المهددة بفقدان مكانتها 1
وحاليا يشهد النظام الدولي حركية على مستوى الصراع على القمة، أبطاله الولايات المتحدة الأمريكية وقوى متحدية متمثلة في الصين وروسيا وحتى الهند، وتمثل أطراف هذا الصراع على مستوى أعلى تنافسا بين الغرب كفضاء جيوسياسي وجيوثقافي تقوده الولايات المتحدة، يقابله الشرق بما يحويه من قوى صاعدة، وتسارع في النمو الاقتصادي، وحيوية في مجال الإبداع ورأس المال البشري والاجتماعي، وتاريخ حضاري عريق.
واعترف مفكرون غربيون وأمريكيون بحجم “كينيث وولتز” و”جون ميرشايمر” و”كريستوفر لاين”، بأن بنية العلاقات الدولية وما تعرفه من اتجاه متزايد لعدد من الدول لموازنة القوة الأمريكية، سيؤدي إلى تقليص مدة الهيمنة الأمريكية لتصبح أقصر نسبيا 2.
فبعد الحربين العالميتين انتقل مركز العالم من أوروبا إلى أمريكا، وهو الآن يتجه نحو آسيا، حيث يجري رسم خريطة جديدة للقوى، فقد تراجع نصيب الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من سكان العالم من 20% في الستينيات إلى 12% في مطلع الألفية الجديدة، وسوف ينخفض أكثر إلى 9% بحلول منتصف القرن الحالي، فيما مليارات البشر في آسيا يشكلون 60% من سكان العالم، ويشكلون ثورة لافتة ورائعة في الحيوية الاقتصادية بحسب “هيلموت شميث” المستشار الألماني الأسبق.. فما بدأ بصعود اليابان، واستمر بنمو النمور الآسيوية، يكمله الآن الصينيون والهنود.. ويكفي أن نعلم أن الصين استطاعت في 12 عاما فقط أن تضاعف نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي، بينما استغرقت بريطانيا 60 سنة لتحقيق ذلك، و40 سنة للولايات المتحدة3.
إننا شهود على مرحلة تحول إستراتيجي حاسمة، تنتقل فيها القوة من الأطلسي إلى الباسيفيك، ومن الغرب نحو الشرق، ومن القوى الإمبريالية الغربية إلى القوى الآسيوية الطموحة والعريقة، وربما يُغفِل الكثيرون أو يجهلون حقيقة أن ما يحدث حاليا من تحول للقوة، هو فصل جديد من فصول انبعاث قوى كان لها في الأصل تاريخ حضاري عريق، وكانت قوى مهيمنة ولها تقاليد الزعامة والقيادة، ولا داعي هنا للتذكير بتفاصيل العراقة الحضارية للصين والهند الضاربة في القدم، وقد كان البلدان معا أكثر تقدما تقنيا من الدول الأوروبية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكان الناتج القومي للهند في القرن السادس عشر الأعلى عالميا، وفي الوقت الذي لم يكن فيه أثر لدولة اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى الكثير من الدول الأوروبية، كانت دول آسيوية كاليابان والصين والهند وإيران ذات خلفيات حضارية عريقة، ومؤثرة في التاريخ العالمي، لذلك فنحن اليوم لسنا بصدد صعود قوى وقارة حديثة عهد بالريادة العالمية، بل نحن أمام انبعاث جديد وعودة لدائرة القوى العالمية لقارة تستعيد مكانتها ليس إلا.
فميزة القوى الآسيوية العريقة هي قدرتها على بعث نفسها من جديد، وهو ما أكده “زبيغنيو بريجنسكي” في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى”، معطيا مثالا بالصين وما يميزها من قدرة عبر تاريخها على القيام بعمليات تجديد دورية، أو عمليات إحياء وترميم نشيطة، لتكون بذلك مختلفة تماما عن الإمبراطوريات الأخرى4.
في حين أخذ الغرب يتحول إلى نسخة مصغرة من نفسه، فقد بدأ سكانه ينكمشون ويشيخون معا، وتناقصت روح الإبداع والابتكار، وتراجع نصيبه الاقتصادي، وسوف ينكمش نصيب أوروبا من السوق العالمية الذي كان يعادل ثلاثة أمثال نصيب الصين والهند معا قبل الحرب العالمية الأولى، إلى 15% فقط من القوة الاقتصادية لهذين البلدين في غضون العقدين المقبلين )مع مطلع 2030(، فقد انتقل محور التركيز الاقتصادي بعيدا عن الغرب، وفي الوقت الذي كان ينكمش فيه المحور الإنتاجي الغربي، بانخفاض نصيب الولايات المتحدة في الصادرات العالمية منذ 1960 بمقدار النصف.. قامت الأمم الآسيوية بنهضة عملاقة، وهدفها هو فرض السيطرة والهيمنة، وأن يكونوا قادة وليس تابعين5.
يحدث ذلك في إطار توجهات واعية ومتعددة الأبعاد لتعزيز مصادر القوة بما في ذلك القوة الناعمة، لأن السعي للمكانة لا تتحكم فيه المصادر المادية للقوة فقط، فتحدي الجذب ونشر القيم وتوسيع اللغة وتسويق الثقافة والنماذج سواء التنموية منها أو المعرفية لإحداث تأثير فكري وحضاري، يلعب دورا كبيرا في معركة التموضع التي تتطلب تجنيد كل مظاهر ومقومات القوة بما في ذلك المعنوية منها، ويحضرنا هنا تنامي القوة الناعمة لعدة دول محسوبة على الشرق، حيث تعد الصين رائدة في هذا الجانب، ولها دائرة مختصة بكسب القلوب والعقول، تهتم بتنمية وتعزيز ونشر قوة الصين الناعمة عبر أبعاد مختلفة، مثل نموذجها التنموي كتجربة يمكن أن تلهم الدول التي كانت في مثل حالتها قبل إقلاعها الاقتصادي، ونشر اللغة الصينية وزيادة عدد متعلميها عبر العالم، واستقطاب المزيد من الطلاب الأجانب لجامعاتها التي تأخذ مكانة عالمية مضطردة، وحتى من خلال نشاطات أخرى كالمطبخ الصيني ورياضات تقليدية مثل “الووشو” والكونغ فو وغيرها، وتفخر الهند بديمقراطيتها الأكبر في العالم، وتأثير جاليتها الكبير في الخارج، ومطبخها المتنوع والمنتشر عالميا، والصناعة السينمائية في بوليوود المنتشرة على نطاق عالمي، وتسعى اليابان وإندونيسيا وماليزيا لأمر مماثل بتوظيف رصيدها الثري حضاريا وقيميا وتنمويا.
ثانيا: الجزائر وضرورات الاتجاه شرقا.. استباق التحولات وتعظيم المكاسب
لا يكفي فقط أن تمتلك دولة ما مقومات ومصادرة قوة متنوعة، مهما كانت جغرافية وطبيعية أو عسكرية واقتصادية أو سكانية وثقافية حضارية، كي تلعب دورا فاعلا أو تكون مؤثرة في محيطيها الإقليمي أو حتى العالمي، بل الأمر يحتاج بالدرجة الأولى إلى حسن توظيف تلك الإمكانات، وبلورتها في إطار توليفة متكاملة لتتحول إلى مصدر قوة وتأثير حقيقي، وما يتحكم في كل ذلك هو وجود رؤية وتصور واضحين لما تمتلكه الدولة، ولما تمثله من ثقل آني، وما تريد أن تكونه لاحقا، وهنا يحضر عامل الإدراك بشكل أساسي، سواء تعلق الأمر بإدراك مصادر قوة الدولة وامتداداتها وقيودها، أو إدراك معالم البيئة التي تتفاعل ضمنها الدولة إقليميا وعالميا، والقدرة على إدراك واستشعار التحولات الحاصلة على مستوى توزيع القوة وحركيتها، لتقوية وظيفة التكيف لدى الدولة مع المجريات الجديدة، وهو ما يجعل الاستجابات المطلوبة أكثر مرونة وفاعلية، ويكون تبني سياسات وإستراتيجيات جديدة للتعامل مع المستجدات، أحد الآليات المطلوبة لتقوية مركز الدولة وتوطيد موقعها الدولي، وهنا يظهر الارتباط الوثيق بين السياسة الجديدة الجيدة، والقدرة على إدراك الواقع وتغيراته.
ما تم إيراده أعلاه يمكن سحبه على الجزائر، التي تزخر بمقومات تؤهلها للعب دور يفوق بكثير ما تكتفي به حاليا، وفي ظل الواقع الدولي الذي يشهد مسارا لتحول القوة وميل الكفة نحو الشرق كما لاحظنا سابقا، يكون إدراك طبيعة التحول الحاصل أمرا مصيريا، لاكتساب القدرة على وضع سياسات تواكب الواقع الجديد، وهنا يكون من الضرورات الملحة تطوير سياسة للاتجاه شرقا، بجعل ذلك الفضاء الجيوسياسي أولوية ومركز اهتمام سياسي وإستراتيجي واقتصادي بالنسبة للجزائر، فالأولويات الجيدة تتحدد وفقا لإدراكات جيدة، وقدرة جيدة أيضا على تعبئة الموارد اللازمة.
خصوصا وأن هذا التوجه لديه جذوره في السياسة الخارجية الجزائرية منذ الاستقلال، حيث كانت العلاقات الجزائرية مع القوى الآسيوية وقوى الشرق عموما مميزة، بداية بالعلاقات مع الإتحاد السوفييتي سابقا أثناء الحرب الباردة، أو حتى مع وريثته روسيا منذ التسعينيات، وكذلك العلاقات مع الصين التي جمعتها بها علاقات اقتصادية ثرية ومستمرة ليومنا هذا ومرشحة للتوطد أكثر، بينما الهند شريكة الجزائر تاريخيا في كفاح التحرر، ومن ثمة في نشاط حركة عدم الانحياز والتعاون جنوب جنوب، وتشهد حركية اقتصادية وترتبط مع الجزائر بمصالح حيوية للطرفين، وقد كان المحرك الكبير لتلك العلاقات مع القوى المذكورة خلال فترة الحرب الباردة، هو معارضة الهيمنة الغربية التي يمثلها المعسكر الليبرالي، سواء في إطار حركة عدم الانحياز مع الهند، أو العلاقات البينية الثنائية مع الصين والاتحاد السوفييتي، ناهيك عن قوى آسيوية أخرى تحقق حاليا قفزات اقتصادية وحتى حضارية، في شاكلة ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وفيتنام وغيرها.
لقد عانت الجزائر في ظل سياساتها وعلاقاتها مع القوى الغربية، وما تحمله من قيم النموذج الغربي سياسيا واقتصاديا وحتى ثقافيا بشكل كبير، ودون أن تجني الفوائد والمكاسب المرجوة، بسبب عدة عوامل مرتبطة بالاختلال الكبير في موازين القوى بين الطرفين، وافتقاد الجزائر في عدة مبادرات واتفاقيات لرؤية متكاملة للوضع مما كبدها خسائر معتبرة، وأهم مثال على ذلك اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي أضرت بالبلاد، وكانت في صالح الطرف الأوروبي بالأساس، وهو ما استدعى مساع حالية لإعادة التفاوض بشأنها، وذلك بعد تضييع أكثر من 15 سنة في شراكة أضرت بنا، على عكس ما كان يروج له من الفوائد التي ستنجر عنها، على الرغم من أن القراءة الأولية في بنودها أثناء توقيعها كانت تكفي لتوقع ما آل إليه الوضع حاليا.
ناهيك عن الاستعلائية الكامنة في التعامل الغربي عموما تجاهنا، وهي جزء من النظرة الدونية الغربية للآخر، والمرتبطة بنزعته المركزية وإرثه الاستعماري، ونظرة الوصاية التي هيمنت على العلاقات بين الطرفين، وهو ما تجلى في التدخل المباشر في شؤوننا في عدة مناسبات، وتسبب في أزمات دبلوماسية بين الجزائر وفرنسا أو الاتحاد الأوروبي، ومن بينها تقرير البرلمان الأوروبي المثير للجدل حول وضع حقوق الإنسان في الجزائر، وجميعها وسائل ضغط تجعل من بعض القضايا مطية للحصول على تنازلات تخدم مصالحها على حساب مصالح الطرف الجزائري، ذلك أنها تتبع نهجا قائما على بنود ما يعرف بـ “إجماع واشنطن” الذي أسس له “جون ويليامسون”*، والذي كرس لتلك المشروطية و التدخلية الغربية في علاقاتها مع أطراف من خارج نطاقها، وخاصة تلك التي لها تقاليد في معارضة هيمنتها، أو تحكمها نظم تتبع سياسات مخالفة لأهدافها ومصالحها.
بينما تمتاز سياسات القوى المحسوبة على الشرق مثل الصين وروسيا والهند وغيرها، بابتعادها عن منطلقات المشروطية السياسية والاقتصادية، والتدخل في الشؤون الداخلية والسيادية، حيث تبني تلك الدول غالبا علاقاتها وفق مبدأ رابح – رابح أو هذا ما يبدو وما تروج له على الأقل، كما أنه لا يوجد في تاريخ العلاقات معها خلفيات كولونيالية تاريخية قد تسمم العلاقات وتحيطها بالحساسية العالية، فتلك الدول تنأى غالبا عن المساس بالشؤون التي تعد من صميم سيادة الدول التي تتعامل معها، وتركز على المصالح الاقتصادية بعيدا عن أي خلفيات إيديولوجية.
ومن ذلك تطوير الصين لما يعرف بـ “إجماع بكين”، والذي يعد اتجاها معارضا لمبادئ ومنطلقات إجماع واشنطن، ورغم أن تسمية إجماع بكين أطلقها الباحث الأمريكي “جوشوارامو” سنة 2004، وتحفظ عليها العديد من الباحثين الصينيين، إلا أنه يعد وصفا لطبيعة السياسات التي تمارسها الصين، وتمثل تحديا حقيقيا للسياسات الغربية، باعتباره يبشر بالنموذج الصيني كنموذج جديد للتنمية، مع جعل ما تتبعه مع الدول من إجراءات اقتصادية محفزا لقوتها الناعمة، وتوظيف سمعتها التنظيمية والعناصر الثقافية وتطوير الخطاب السياسي، وكلها عناصر تلقى قبولا لدى الدول التي عانت طويلا من الهيمنة الغربية وخاصة في إفريقيا، وميزة إجماع بكين بحسب “أريف ديرليك” أنه لا يتوقف فقط عند تمكين الصين اقتصاديا، بل في قدرته على الحشد لمعارضي إجماع واشنطن “الإمبريالي”6
كما أن تلك القوى تقدم اليوم بدائل أفضل وأكثر عملية مما تقدمه الدول الغربية في مجالات عدة، لذلك وجب على الجزائر الانخراط بديناميكية وقوة، وبنفس الوقت بطريقة مدروسة في الفرص المتاحة، والتي من بينها وأهمها حاليا مشروع الحزام والطريق الصيني، بالعمل على مقاومة العراقيل التي تعيق تقدم هياكل المشروع الخاصة بالجزائر.
ومن ذلك خاصة إتمام إنجاز ميناء الحمدانية وتطوير ميناء بجاية، وهي المشاريع التي تتكفل بها شركات صينية، لكون الجزائر واحدة من الأقطاب التنموية في مشروع الحزام والطريق في إفريقيا، ولها دورها الكبير في تحفيز التوغل الجزائري، بربط ميناء بجاية بطريق الوحدة الإفريقية نحو نيجيريا، ويسمح ميناء الحمدانية بربط الجزائر مع جنوب وشرق آسيا والأمريكيتين وإفريقيا، بالنظر إلى كثافة حركة النقل البحري المنتظر، لتتحول الجزائر إلى منطقة استقبال للتبادلات التجارية من الدول المنخرطة في المشروع الصيني الضخم.. ولكن مذكرة التفاهم التي وقعت بين الطرفين في بكين في سبتمبر 2018، فيما تعلق بموقع الجزائر في هذا المشروع، تبقى بحاجة إلى تفعيل أكثر وإدراك أكبر لحيوية هذا المشروع الإستراتيجي، في أخذ البلاد إلى آفاق أرحب من المكاسب والفرص والبدائل في مختلف المجالات7.
وتقدم القوى الآسيوية ما هو أبعد من ذلك، حينما تقدم تجاربها الرائدة في الخروج من دائرة التخلف وتحقيق التنمية، والأمر هنا لا ينحصر في النموذج الياباني الذي يعد باكورة التجارب التنموية الناجحة، ولا النموذج الصيني المتفرد فقط، وذلك على الرغم من اللمسات الليبرالية والغربية في التجربتين اليابانية والصينية، ولكن التركيز هنا يكون على قدرة البلدين على تنمية رأس مال بشري واجتماعي انطلاقا من قيمهما الآسيوية العريقة الكونفوشيوسية بالأساس، وهو ما جعل تلك المنطلقات الغربية الليبرالية طيعة في يد واضعي السياسات التنموية في البلدين، وتكييفها مع الواقع الخاص بهما، ليصبح الحديث متمحورا مثلا حول اقتصاد سوق بخصائص صينية، تمتزج فيه أيضا الإيديولوجية الاشتراكية والقيم المجتمعية الكونفوشيوسية، وهو ما يبشر هنا بإمكانية استنهاض وضعنا التنموي في الجزائر بإعادة استكشاف قيمنا وتثمينها وتفعيلها استئناسا بما حدث في تجارب تنموية آسيوية ناجحة.
وتقدم لنا دول أخرى دروسا في استنهاض ذاتها، وهي دول قريبة لنا حتى من حيث قيمها المجتمعية العامة، وخاصة الدول الآسيوية المسلمة مثل إندونيسيا وماليزيا، وتتشابه معنا حتى من حيث بنيتها الاقتصادية، فإندونيسيا كانت مثل الجزائر دولة ريعية ومصدرة للنفط، ولكنها انسحبت من أوبك سنة 2008 لقلة إنتاجها، ومع أنها كانت منتجة للنفط على امتداد 100 سنة، تمكنت من تجاوز حالة الكبح البنيوي الاقتصادي التي كانت تعيشها، وهو ما يمكن أن يكون بعد دراسة دقيقة منطلقا لنا للخروج من اقتصاد الريع، لا سيما وأننا يجب أن نعترف بافتقادنا لمنهج أو منطلق لتحقيق ذلك، رغم ما يعج به الخطاب السياسي والاقتصادي عندنا من طرح للمعضلة، دون وجود بدائل وخطط ملموسة لحد الآن.
كما قدمت ماليزيا نموذجا عمليا لتنمية رأس المال الاجتماعي، ونجحت في تجاوز تداعيات الأزمة الآسيوية بجهودها الذاتية، ودون الاعتماد على مشورة وحزم مساعدات صندوق النقد الدولي، ومعلوم ما عانته الجزائر من برامج الخصخصة والإصلاحات الهيكلية التي أوصى بها الصندوق سابقا، وهذه التجارب القريبة منا، بل والمتطابقة أحيانا من وقائع عايشناها، تجعل إمكانية الاستفادة المتبادلة واردة بشكل كبير، بعيدا عن السياقات الغربية التي أثبتت فشلها عندنا وفي الدول المماثلة لنا.
ولكن المعطيات المذكورة آنفا، ينبغي أن يتم النظر إليها في سياق واحد متناغم لصياغة سياسة للاتجاه شرقا، لا تقوم على رؤى وعلاقات متفرقة، بل على نظرة جامعة تقوم باستقراء واقع القارة الآسيوية، من حيث كونها مركز التفاعلات الإستراتيجية العالمية، وتحديد الفرص التي توفرها هذه التحولات لاستغلالها، واستكشاف المحاذير والمخاطر التي يمكن أن تنجر عن هذه التحولات والتحضير للتعامل معها، والاستفادة في ذلك من خبرات دول أخرى نهجت هذه السياسة في صورة تركيا وروسيا وحتى إيران، وذلك لتنويع البدائل أمام صانع القرار الجزائري، واستحداث مراكز تفاعل ومواطن مصالح جديدة، وكسب أوراق قوة أخرى لتعزيز موقف الجزائر التفاوضي في أي من القضايا الحساسة خاصة الاقتصادية والاستراتيجية، مع أطراف غربية جمعتها بالجزائر علاقات واسعة من قبل مثل الاتحاد الأوروبي كتكتل، وعدد من دوله ذات الارتباط الكبير بالجزائر مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وألمانيا، ومع الولايات المتحدة الأمريكية طبعا، لأن مشكلة العلاقات الحالية للجزائر مع فضاء الشرق، هو أنها تفتقد لوحدة الرؤية والهدف، لأنها تتعامل مع دوله في إطار علاقات بينية محدودة وتقليدية في عدة مجالات، ولا تتعامل مع ذلك المجال الجيوسياسي ككل كوحدة واحدة، تمثل منطقة مصالح وصانعة للمستقبل، ومحور تفاعلات السياسة العالمية في القرن الحالي.
ذلك أن بعض المؤشرات مثل كثافة التعاملات الاقتصادية والتجارية مع الشرق وخاصة الصين وتحولها الى الشريك الأول للجزائر وزحزحتها فرنسا عن تلك المكانة، تبقى غير كافية لوحدها للاستدلال بها على قوة العلاقة بين الجزائر والدول الاسيوية خاصة الصين.
ومن الناحية الثقافية كذلك، نلاحظ غيابا في الجزائر للانفتاح على الثقافات الشرقية الآسيوية، وذلك على الرغم مما لهذا العامل من دور في تعزيز العلاقات وتحقيق التقارب، وخلق ديناميكية مجتمعية وشعبية بين الجزائر ومختلف القوى في آسيا، وهو ما يدل على نظرة ضيقة في علاقاتنا بالشرق، جعلت منا مجرد سوق استهلاكي لمنتجات اقتصاديات بلدانه، مع تغييب البعد الحضاري والثقافي الذي يمكن أن يحدث تلاقحا بين قيمنا والقيم الآسيوية التي تتشابه وتتقارب مع القيم خاصتنا في نواح عدة وكثيرة، حيث ما نزال منغلقين في هذا المجال، وفضاء لانتشار نماذج ثقافية غربية وفرونكوفونية بالأساس.
فعلى سبيل المثال ورغم وجود أكثر من 500 من معاهد كونفوشيوس، وأكثر من 1113 حلقة من حلقات دراسية مرتبطة بها في 146 دولة، تعلم اللغة الصينية وتنشر ثقافتها، وتقوم بنشاطات ذات صلة بالتاريخ والثقافة والحضارة الصينية، وتنشط إما داخل جامعات أو خارجها، وتلعب دورا كبيرا في التعريف بالصيني عالميا، ونشر وتعزيز قوتها الناعمة، وتساهم في فهم أكبر للقوة الصينية الصاعدة و الطامحة لاستعادة أمجاد المملكة الوسطى**، إلا أنه لا وجود في الجزائر لفرع لهذا المعهد مع أنه موجود في دول مجاورة، على الرغم من التواجد المكثف للصين في الجزائر في مختلف المشاريع، وكونها الشريك التجاري الأول لها، وهو ما يمثل ثغرة كبيرة لا تساعد في فهم جيد للآخر، ويؤثر على أية مساع لبناء سياسة فعالة.
إن الفضاء الجيوسياسي في الشرق، يمنحنا فرصا متنوعة وبتكلفة تبدو ولو نظريا أقل مما تعودنا عليه في تعاملاتنا مع الفضاء الغربي طيلة عقود، تم فيها استنزاف الكثير من الموارد وتضييع الفرص، في علاقات كان عبؤها وتكلفتها أكبر من عوائدها ومنافعها، في حين يبدو التقارب مع الأطراف والفواعل الصاعدة في الشرق، والتي تعرف نهضة اقتصادية تنموية وسياسية أجدر بالسعي نحوه، والتخطيط للاستفادة القصوى منها، فميزة أي سياسة جيدة هو المرونة التي تختص بها، والتي تستطيع أن تُحَيِد أي حالة جمود أو تأثير لنمط تفكير تقليدي تجاوزه الزمن لدى صانع القرار.
وهنا تبرز إشكالية نسق وهيكل التفكير الخاص بنا ، حيث تعودنا لعقود عدة على منظور معتاد ومتكرر للتعامل وتجاه فضاء غربي، متأثرين غالبا بتصوره للعالم وحتى بقيمه، ونستقي منه الكثير من الرؤى والتحاليل، وهو ما يحجب عنا التفكير بشكل مختلف أو خارج الصندوق، نظرا لهيمنة قيود التفكير التي عمرت طويلا، وحتى عدم إدراكنا لخطورة التحولات المرتقبة، بل وحتى استبعدنا حدوث تحولات تزحزح الفضاء الغربي بمكوناته المتعددة عن الريادة العالمية، وذلك ما ينجر عنه سوء إدراك ذو عواقب وخيمة على تفكيرنا في المستقبل والتخطيط له.
ولكن ليست هنالك إستراتيجية أو سياسة بدون مخاطر أو تكلفة، فمثلما تمنح فرصا فإنها تولد مخاطر ومحاذير لابد من التحوط منها، فسياسات أية قوى صاعدة أو طامحة للريادة، لا تخلو في مرحلة ما من نزعة هيمنة تفرضها مقتضيات المكانة والصدارة، فحتى وإن كانت بدايات الصعود سلمية ومراعية للتوازنات بما يخدم هدف كسب شرعية وتأييد لتبوئها المكانة المرجوة من مختلف الأطراف، إلا أن هنالك لحظة دولية تجعل من ممارسة الهيمنة وفرض القيم والقواعد الخاصة بتلك القوة الصاعدة في صلب أجندتها، ثم تأتي مرحلة بحثها عن تبريرات لسياساتها الخاصة بالهيمنة، وهو ما يدفع باتجاه أخذ هذا المتغير بعين الاعتبار في رسم أية سياسة، لأن الهدف من السياسات البديلة لدى الجزائر، هو تحقيق المصالح والأهداف بفاعلية أكبر وبتكاليف أقل.
ومن الجانب الاقتصادي كذلك، الذي يشكل عماد التعاملات الجزائرية مع الدول الآسيوية وخاصة الصين، فقد تكون تلك التعاملات مدخلا لتوليد هيمنة بشكل مختلف، وهو ما وقعت فيه العديد من الدول الإفريقية وحتى في آسيا الوسطى والمجر واليونان وغيرها، والتي أصبحت مدانة للصين بمليارات الدولارات، في إطار إنجاز منشآت وهياكل مشروع طريق الحرير، أو الاستدانة لتغطية عجز في الميزانية وغيرها، وهو ما يمكن أن يرهن القرار السياسي لتك الدول من طرف الصين في أي وقت، ليتم استبدال المشروطية السياسية والاقتصادية الغربية بمعضلة الديون الصينية.
وحتى روسيا التي تعد شريكا تقليديا للجزائر، ومع عملها منذ وصول بوتين للحكم على استعادة دورها العالمي، وهو ما بدأ يتجسد بشكل واضح في دورها الفعال في الساحة السورية بمقابل تراجع الدور الأمريكي، نجدها بدورها تمس بمصالح وأدوار الجزائر ومساعيها في إيجاد حل سلمي في ليبيا، مع وجود عناصر جماعة “فاغنر” في ليبيا، المؤيدة لمعسكر حفتر والدول التي تدعمه، ووقوفها ضد الحكومة الشرعية في طرابلس، مما يشكل تعارضا مع المصالح الجزائرية، على الرغم من نفي روسيا لكون تلك الجماعة تمثل الدولة الروسية هناك، باعتبارها شركة أمنية خاصة وليست تابعة للدولة.
ينبغي أن يكون أساس نجاح أي سياسة جزائرية وخاصة تجاه الشرق، هو وضع هدف اكتساب المكانة اللائقة، وذلك بالإدراك الجيد للذات وللمقومات وللمصالح وللدور المرسوم وللتحديات والمحاذير، فالفضاء الدولي المتغير يمنح دوما الكثير من الفرص التي تحطم هيكل القيود الستاتيكية، التي كانت تفرضها القوى المهيمنة الغربية التي كانت تسعى للحفاظ على الوضع القائم الذي يخدمها، قبل أن تواجه تحديا من قوى أخرى غير راضية بهيمنتها من الشرق أساسا، واقتناص تلك الفرص يكون فقط لمن يجيد قراءة طبيعة التحولات وحتى توقعها واستباقها، واستكشافها وتحويرها لصالحه.
خاتمة
إن براغماتية التوجهات والسياسات، وتقديم مصالح الدولة وأولويتها، والسعي لتعظيم المكاسب والمنافع، والعمل على التموضع المناسب في خضم بيئة متغيرة، كلها عوامل تدفع باتجاه ضرورة التعامل بمنظور متطور ومختلف مع الواقع الدولي، ووضع تصورات مسبقة لفهم التحولات التي تجري، وبما أن التحولات الحاصلة في حركيتها الحالية، وحتى المتوقعة على المديين المتوسط والبعيد، تمنح الفضاء الجيوسياسي في الشرق غلبة تدريجية على كفة الفضاء الغربي، سواء من حيث ميزان القوى المادي أو غير المادي أو الصلب والناعم، يكون من الواجب جعل سياساتنا في الجزائر تعطي الأولوية للفضاء الأكثر احتمالا لكسب ميزان القوة، وعدم التمسك بمنظورنا التقليدي للتفكير في العالم والتعامل معه، لأن العالم يتحول وينبغي علينا أن نتتبع مسارات هذه العملية المنضوية ضمن السنن الكونية للتغيير، وعدم الالتزام بسيناريو المسار الخطي الذي يفترض ثبات الأوضاع، ويورث عجزا مزمنا في توقع التغيرات، وبالتالي العجز عن التعامل معها أو التخطيط للاستفادة القصوى منها.
وترتبط مصائر الأمم بشدة بعامل التغيير، حيث يُفْرَضُ عليها أحيانا أن تنتهج تغييرا في سياساتها وفي توجهاتها، وتجد نفسها أحيانا أخرى مجبرة على التكيف مع تغيرات البيئة المحيطة بها، كما أنها قد تقع ضحية جهلها بالتغيرات الحاصلة وبسوء قراءتها وإدراكها، والأسوأ من ذلك تجاهل التغيرات وعدم التسليم بوقوعها إلى أن تتبدى تداعياتها، وتنتفي حينها أية إمكانية للتملص من انعكاساتها السلبية، فالتغيير يفرض تحديات يكون حسن الاستجابة لها هو الفيصل، ومن يهدف إلى تحقيق مصالحه وأهدافه عليه أن يدرك ويعي حجم التحدي الذي يواجهه.
وفي خضم بيئة متغيرة يتحتم على الجزائر أن تمتلك ذلك الوعي بالتحديات التي تفرضها، وأن تتحلى بالفهم الوافي لمجريات عملية التحول الجارية، والانطلاق من أن تغير موازين القوى هو حتمية من الحتميات التاريخية وشواهد الماضي البعيد والقريب تؤكد ذلك، والتسليم بأن التغيير سيحدث يوما ما، والمطلوب هو الاستعداد له، ومن منطلق المعطيات المتوفرة والتي تؤكدها مختلف الدراسات والباحثين، تتجه العلاقات الدولية نحو عالم تميزه ريادة الشرق، المتمثل خاصة في القارة الآسيوية وروسيا، مع ما تشهده الصين والهند وقوى آسيوية أخرى من نمو طموحاتها للتموضع ضمن القوى الفاعلة دوليا، سواء كان ذلك من النواحي السياسية والإستراتيجية والاقتصادية وحتى الثقافية والحضارية، وتقديمها لنماذج ناجحة تنمويا، وإحراجها للقوى التقليدية الغربية وتهديدها لمكانتها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يشي بضرورة توجيه بوصلة أولوياتنا السياسية والاقتصادية والتنموية صوب الشرق، حيث يبرز فضاء يتطور ويتقدم وينمو، في مقابل فضاء غربي تثبت المؤشرات تراجعه، وبشهادة كبار المفكرين والمنظرين الغربيين أنفسهم، لذلك فمقتضيات المصلحة والبراغماتية تفرض علينا تبني سياسة واعية ومتكاملة للاتجاه شرقا، وهي إطار مختلف تماما عن نسق تعاملنا التقليدي مع القوى الآسيوية بشكل مشتت وثنائي غالبا وفي قضايا الاقتصاد بالأساس، مع غياب تصور لبلورة سياسة ذات هدف موحد عموما، وهو توسيع نطاق التحالفات، وتوسيع هامش المناورة بتوفير بدائل وخيارات أخرى، والاستعداد للمستقبل بالتموضع مع الطرف الذي يحقق طموحاتنا وأهدافنا بحسب ما تقتضيه مصالحنا العليا، مع موازنة مصالحنا وارتباطاتنا مع الشركاء التقليديين الغربيين، ولكن بمنح أولوية أكبر لنسج علاقات واستخلاص دروس التنمية والاستنهاض الذاتي في مختلف المجالات من ناحية الشرق، مع الوعي بوجود محاذير في التعامل مع تلك القوى الجديدة والمتجددة، حتى لا نقع في فخ هيمنة أخرى، لأن الهيمنة والتبعية تظلان أمرا سيئا مهما كانت طبيعة وموقع المهيمن أو الفارض للتبعية.
الدكتور عبد القادر دندن
تخصص علوم سياسية وعلاقات دولية، جامعة عنابة.
الهوامش
1- محمد شفيق علام، “تحول القوة في العلاقات الدولية.. دروس للأمة”، التقرير الإستراتيجي الثامن، المركز العربي للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 2011. ص 322.
2- Eric Edelman, Understanding America’s contested Primacy,center for Strategic and Budgetary Assessment, USA, 2010. P. 01.
3- جابور شتاينجارت، الحرب من أجل الثروة: القصة الحقيقية للعولمة أو لماذا يتحطم العالم المسطح؟ ترجمة: علاء أحمد صلاح، مجموعة النيل العربية، القاهرة، 2011. ص ص 22، 23.
4- زبيغنيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيوستراتيجيا، مركز الدراسات العسكرية، الطبعة الثانية، 1999. ص ص 9-11.
5- جابور شتاينجارت، مرجع سابق، ص ص 16، 17.
* لمعلومات تفصيلية حول “إجماع واشنطن” أنظر كلا من:
-John Marangos, “The evolution of the term (Washington Consensus), Journal of Economic Surveys (2009) Vol. 23, No. 2. P. p 350, 351.
-John Williamson, The Washington Consensus as Policy Prescription for Development, A lecture in the series “Practitioners of Development” delivered at the World Bank on January 13, 2004. P. p 1, 2.
** للمزيد حول دور معاهد كونفوشيوس عبر العالم، أنظر: معاهد كونفوشيوس تعزز التفاهم والتبادل بين الصين ودول العالم، وكالة شينخوا للأخبار، 22 جانفي 2018. في:
http://arabic.people.com.cn/n3/2018/0122/c31660-9418160.html
6 – حلمي شعراوي، “إجماع بكين أمام إجماع واشنطن”، صحيفة الاتحاد، 13 ماي 2013. في:
http://bit.ly/3knyYBo
7- دليلة بلخير، “الجزائر تعيد بعث طريق الحرير عبر ميناء الحمدانية”، موقع العربي الجديد، 30 جوان 2020. في: http://bit.ly/3pW0ZKA