تباينت آراء مختصين من محللين سياسيين واقتصاديين حول أزمة أنبوب الغاز، منذ تأكيد الجزائر قطع الإمدادت إلى أوروبا عن طريق أراضي المملكة المغربية، ليلة الفاتح نوفمبر 2021، منهم من يقول إن الخطوة تقع في صميم القرار السيادي الجزائري، على اعتبار أنها مظهر من مظاهر تنفيذ السياسة الخارجية.
اعتبر آخرون أن الجزائر هي الخاسر من الإجراء، ويظهر المغرب أنه لن يتضرر قدر أنملة، رغم أن تقريرا أوروبيا قال إن قرار الجزائر ساهم في ارتفاع أسعار الطاقة في أوروبا. فكيف يؤثر القرار على أوروبا، التي تتزود من ثلاثة متعاملين آخرين وهم روسيا وايران وأذربيجان، إلى جانب الجزائر، ولا يتضرر المغرب الذي يغطي الغاز الجزائري 97 بالمائة من احتياجاته، ويستخرج 10 بالمائة من الكهرباء من الغاز الجزائري، ناهيك عن مداخيله مقابل عبور الانبوب بأراضيه.
عقوبات اقتصادية
ويروج البعض إلى ضرورة الفصل بين الخلافات السياسية والمصلحة الاقتصادية، لكن المعلوم أن علم الاقتصاد السياسي الذي يدرس تأثير السياسة على الاقتصاد وتأثرها به، يفسر ما تنتهجه بعض الدول من قرارات اقتصادية نتيجة خلافات سياسية، حيث تكون العقوبات الاقتصادية هنا قصد الاضرار بالاقتصاد والاستقرار السياسي للدولة الخصم وتأديبها.
قرار الجزائر الأخير لا يخرج عن هذا الإطار، فبعد الاعتداءات المغربية المتكررة على الجزائر، التي تمتد إلى فترة ثورة التحرير، عندما اختطف المحتل الفرنسي طائرة قادة الثورة الستة، بتواطئ مغربي، ثم عدوان “حرب الرمال” وصولا إلى فرض التأشيرة على الجزائريين في تسعينيات القرن الماضي، في وقت عانت الجزائر من نزيف دموي داخلي وحصار دولي خلال العشرية السوداء، ودعم حركات انفصالية إرهابية، والتحالف مع الكيان الصهيوني العدو لزعزعة استقرار الجزائر، دون نسيان فضيحة التجسس بيغاسوس، وهو برنامج تجسس صهيوني استخدمه المغرب ضد عدد من الشخصيات والمؤسسات.
كل هذه الاعتداءات وغيرها، دفع بالجزائر إلى قطع علاقاتها مع المغرب، ثم منع طائراته من التحليق في الأجواء الجزائرية بسبب اتفاقية الطيران مع الكيان الإسرائيلي، وأخيرا وقف ضخ الغاز إلى أوروبا عن طريق الانبوب المار بالمغرب. وبالتالي نلاحظ جليا كيف أثرت المواقف السياسة على العلاقات الاقتصادية، خاصة وأن للجزائر بديلا عن ذلك الانبوب وهو أنبوب ميدغاز، الذي ينطلق من الساحل الغربي للجزائر في بني صاف إلى ألميريا في إسبانيا.
وقالت الجزائر إنها تلتزم باتفاقها مع الشريك الإسباني من حيث ضمان تدفق الغاز عبر الانبوب البديل “ميد غاز”. وتقدر طاقته بـ10 مليار متر مكعب، وهي نفسها التي كان يوفرها الأنبوب الموقف، لكن هذا الانبوب يغيب في معظم التحليلات. فهل يراد من ذلك إخفاء التداعيات الطاقوية على المغرب جراء القرار، أم التقليل من أهمية هذا الخط.
هل يتأثر الشريك الأوروبي؟
أكدت الجزائر أن حصة إسبانيا من الغاز الجزائري ستصل كاملة غير منقوصة عبر خط أنابيب الغاز “ميدغاز”، وقد أعلن ووزير الطاقة والمناجم الجزائري محمد عرقاب رفقة وزيرة التحول البيئي الإسبانية المسؤولة عن الطاقة تيريزا ريبيرا ، يوم 27 أكتوبر الماضي، أن إمدادات الغاز الجزائري إلى إسبانيا ستُضمن بخط أنابيب الغاز ميدغاز ومجمعات تحويل الغاز الطبيعي المسال.
ويضمن الخط البحري ضخ ثماني مليارات متر مكعب من الغاز نحو إسبانيا والبرتغال، وينتظر أن ترفع قدرته إلى 10.5 مليار متر مكعب. واقترحت الجزائر أن تزيد شحنات الغاز المسال وتنقلها بواسطة سفن.
ظروف استثنائية
التزام الجزائر هذا يأتي في ظروف استثنائية، تتسم بأزمة طاقة في العالم أجمع، وفي أوروبا على وجه التحديد، لأسباب موضوعية، أولها التعافي من التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا، والذي جاء أسرع مما كان متوقعا، وبالتالي، عودة المصانع إلى العمل ومنه ارتفاع الطلب على مورد الغاز.
السبب الثاني هو تحول أوروبا من استعمال الطاقات الملوثة كالنفط والفحم الحجري، حيث أغلقت ألمانيا آخر مناجم الفحم الحجري، وتستعد هولندا للتوقف عن انتاج النفط من حقل خرونينجن.
هذا التخلي جعل الدول الأوروبية تُكيف بنيتها التحتية مع متطلبات المورد الطاقوي الجديد، وبالتالي لم تعد تتلائم مع النفط والفحم، وقد لا تُمكن العودة للوراء.
السبب الثالث هو الشتاء الذي حل مبكرا هذا العام في أوروبا، حسب تقارير الأرصاد الجوية، خاصة دول الشمال، ويترافق موسم البرد، عادة، مع ارتفاع الطلب على موارد الطاقة.
يضاف إلى كل ذلك عقود الغاز بين أوروبا وروسيا الآجلة قصيرة الأمد، على اعتبار أن روسيا أكبر مزود لأوروبا بالغاز، حيث بنيت على أساس تعاف بطيء، لكن ما حدث غير الوقائع، وأكدت روسيا أن الطلب الأوروبي المتنامي على الغاز قد يتطلب 5 سنوات أخرى حتى تتمكن البنى التحتية الروسية من تلبيته.
تأثير القرار على المغرب
تشير أرقام إلى حصول المغرب، على نحو مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الجزائري، ما يمثل 97 بالمئة من الاحتياجات المغربية، ويحصل على نصفها في شكل حقوق طريق مدفوعة عينياً، والنصف الآخر يشتريه بثمن تفاضلي، وفق خبراء.
وكان الغاز الجزائري يزود محطتين للطاقة الحرارية في تهدارت (شمال المغرب) وعين بني مطهر (شرق المغرب) بما يصل إلى نحو 700 مليون متر مكعب في السنة، أي ما يعادل 10 بالمئة من احتياجاته من الكهرباء.
بدائل؟
ومما يُتداول أن للمغرب بدائل عن الغاز الجزائر، منها دول الخليج والولايات المتحدة الأمريكية، فهل يملك المغرب تجهيزات التخزين على اعتبار أن ما سيأتيه من هذه البدائل سيكون بسفن بحرية وليس من أنابيب؟ ثم هل يملك الموارد المالية الكافية لسد الثغرة التي تركها أنبوب الغاز الجزائري؟
أي دور للجزائر؟
توجد لدى الجزائر 5 خطوط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي: أولها “غالسي”، المتوقع بدء تشغيله العام 2022، لنقل الغاز من الجزائر إلى إيطاليا، بسعة 238 مليار قدم مكعبة سنويًا (حوالي 7 مليار متر مكعب)، وطول 534 ميلًا.
وتصدر الجزائر 280 مليار قدم مكعبة سنويا (حوالي 8 مليار متر مكعب)، إلى إسبانيا عبر خط “ميدغاز”: حاسي رمل-بني صاف- ألميريا، الذي دخل حيز العمل سنة 2011، وخط أنابيب المغرب العربي وأوروبا، الموقف عن العمل.
يضاف إلى ذلك خط الأنابيب إلى إيطاليا عبر المتوسط، مرورًا بتونس، منذ 1983 بطول 1025 ميًلا، بقدرة تصدير تبلغ 1340 مليار قدم مكعبة سنويًا (حوالي 38 مليار متر مكعب).
وخط أنابيب مقترح لنقل الغاز من نيجيريا مرورًا بالنيجر والجزائر، وصولا إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الجزائرية حيز الخدمة، بطاقة 1059 مليار قدم مكعبة يوميًا (حوالي 29 مليار متر مكعب)، فيما يصل طوله إلى 2602 ميل.
إذا علمنا أن خط الأنابيب المغرب العربي أوروبا كان ينقل 13،5 مليار متر مكعب، فإن فارق القدرة بينه وبين خط أنابيب ميدغاز هو تقريبا 3،5 مليار متر مكعب، وقالت الجزائر إن الخط البحري سيعوض الانبوب الموقف عن العمل، مع رفع قدرة التصدير عن طريق السفن. وهذا قد يكلف بعض العبء المالي الإضافي.
مع هذه التطورات والطلب المتزايد على الغاز خاصة، باعتباره موردا للطاقة البديلة النظيفة متاحا وأقل تكلفة، هل تفكر الجزائر في اقتناص الفرصة وتحصيل نصيب من السوق الأوروبية متنامية الطلب على الغاز، خاصة وأنها تتحول إلى الطاقات النظيفة والبديلة عن النفط؟