قلت سابقا، وازددت قناعة بما قلت، بأن أي منع –لأي سبب كان- للإسلام السياسي من التعبير عن نفسه تنظيميا، هو محاولة لمنع الوجدان الشعبي والذاكرة التاريخية والبنية الثقافية من التعبير عن نفسها في اطار سياسي منظم، وهو ما يمثل عقما سياسيا.
الصين الشعبية رغم كل ما فعله ماوتسي تونغ ضد الثقافة الكونفوشية، ها هي تعود وتنتشر مراكز كونفوشيوس بدعم حكومي في كل دول العالم، وما تزال الأحزاب الديمقراطية المسيحية تصول وتجول في اوروبا، وها هو أهم مفكري روسيا المعاصرة الكسندر دوغين والأكثر تأثيرا على الرئيس بوتين ينفخ الروح في التقاليد الأرثذوكسية.
ليت الانظمة العربية تعود لكتاب رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي (استقال العام الماضي بسبب المرض بعد أن تولى الحكم اكثر من مرة) وبخاصة كتابه (Towards a Beautiful Country) وملاحظة رؤيته لسياسة التعليم وربطه لها بالسياسة من ناحية وبالأصول الثقافية للمجتمع، أو النظر الى الهند التي للمرة الأولى يصل فيها الحزب الهندوسي جاناتا الى السلطة، ناهيك عن ظاهرة المحافظين الجدد والانجيليين الذي يتزايدون في الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية أو ظاهرة الأحزاب الدينية الاسرائيلية.
لكني من ناحية أخرى، أرى أن الإسلام السياسي، وبخاصة قاعدته العريضة من الإخوان المسلمين كشفوا عن خواء سياسي يتمثل في “ذرائعية” مفرطة لتبرير انتكاساتهم، سواء على صعيد بيئاتهم السياسية المحلية أو بنيتهم التنظيمية.. ولعل نتائج الانتخابات المغربية الأخيرة تكشف ذلك بوضوح.
لقد تحالف الاخوان تاريخيا مع من يصنفهم الآن إرهابيين (الغرب والخليج)، بل عند نشوء الثورة الفلسطينية وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية (رغم ان جذور اغلب قادة فتح كانوا من الإخوان) وتطورها خلال الفترة من 1965 الى 1973 بقوا بعيدين عنها تماما.
في مصر، كنت قد نبهت قيادات من الإخوان أثناء تقديمي دورة لعدد من كبار كوادرهم في الدراسات المستقبلية في القاهرة، أن هناك احتمال كبير للغاية من وقوع انقلاب على مرسي.
وكتبت ذلك بعدها على صفحتي في الفيسبوك قبل وقوع الانقلاب، لكنهم استبعدوا فكرة الانقلاب تماما واختلفوا مع وجهة نظري.
وعندما تم عزلهم في مصر بعد انتخاب مرشحهم محمد مرسي بانقلاب عسكري، عادوا يبحثون عن حلفاء وأصبحت قناة الجزيرة ناطقهم الأول، وتجمعوا في قطر الثروة، أو في تركيا المعترفة بإسرائيل، والشريك التجاري الاول لها في الشرق الأوسط، والعضو الرسمي الفاعل في حلف الاطلسي والمتلهف ليلا ونهارا ليكون عضوا في الاتحاد الأوروبي “المسيحي” طبقا، على الأقل، لمنظورهم العام…
أعود للتجربة المغربية التي منحوا فيها فرصة إثبات القدرة على الإنجاز، ولكنهم قبلوا أن يلعبوا ضمن قواعد ليست من صنعهم، اعتمادا على جمهور المشجعين في استاد سياسي، فكانت نتيجة سياساتهم ان خسروا المباراة وخسروا المشجعين وتشاجروا (يكفي قراءة بيانات جناح الشباب منهم).
فإذا كان الاخوان سقطوا في مصر بذريعة الانقلاب.. فلماذا سقطوا في المغرب وبنتيجة أقسى من نتيجة مصر وبدون انقلاب؟
أولا: بيئة غير مواتية لكنهم قبلوا بها:
قبل أن يصلوا للسلطة وخلالها، أجرى الملك المغربي تعديلات دستورية لا تغير من صلاحياته “قيد أنملة”، وبقي هو المتحكم في الشؤون الداخلية والخارجية والدفاع وبقي أمير المؤمنين (وصف لا يستخدمه أحد حاليا في كل العالم الإسلامي إلا هو)، كما أن نخبته الحاكمة المعادية للإسلاميين بقيت في دائرة التأثير الفاعل دون تغيير ذي دلالة، رغم كل هذا قبلوا تولي السلطة.
ثانيا: ماذا أنجز الاخوان المسلمين في المغرب حلال حكمهم الشكلي (الذي قبلوا به ودافعوا عنه) خلال فترة حكمهم من 2011 الى 2021؟ إن حصادهم كان السبب في فشلهم: لننظر في الآتي:
1-معدل البطالة والفروق الطبقية: خلال فترة من 2011 (أول تولي للسلطة) الى 2021، بقي مؤشر Gini(الفروق الطبقية) على حالها عند 0.40، وهو مؤشر يجعل من المغرب ضمن الدولة ذات التقدير السيء، أي انهم لم ينجحوا في تقليص الفوارق الطبقية، أما البطالة فقد زادت بشكل واضح بخاصة خلال الفترة من 2017 الى 2021، حيث ارتفعت النسبة من 9.3 % الى حوالي 12.8 (أي بمعدل زيادة في البطالة تصل حوالي 38%).
والملفت للنظر أنهم سلموا في حكومتهم وزارات الاقتصاد والمالية والصناعة والزراعة وصيد السمك لحزب التجمع الليبرالي، أي ان وزارات “صنع التشغيل” لم تكن بيدهم لضمان مجموع ائتلافي يمكنهم من تشكيل الحكومة، ولكنهم حرموا أنفسهم من تولى وزارات صنع التشغيل، لكي يتم حرمانهم من تعزيز قاعدتهم الشعبية.. لكنهم قبلوا بذلك.
2- موافقتهم العلنية وأحيانا الضمنية على قوانين أو سياسات غير مقبولة مثل:
أ- موافقتهم ضمنيا على تعديل دستوري باعتبار التراث العبري جزء من مكونات التراث الثقافي المغربي (ونحن نعلم أن يهود المغاربة في معظمهم هم من يهود إسبانيا).
ب- موافقتهم على عقود عمل مدة عامين للمعلمين، وهو ما فتح المجال أمام نقد شديد لهم، وبخاصة أنهم يميلون نحو خصخصة التعليم، وهو أمر يثقل كثيرا أعباء التعليم على الطبقات الفقيرة.
ج- رغم أنهم الأكثر تكرارا، النقد المستمر لاستخدام اللغة الفرنسية في التعليم، إلا أنهم عند تولي السلطة لم يتمكنوا من تعطيل قانون اعتبار اللغة الفرنسية لغة التعليم في العلوم الطبيعية.
د- تغيير النظام الانتخابي في مارس 2021، وهنا ملاحظة مهمة، وهي ان الإخوان رفضوا تعديلات النظام الانتخابي، لكن البرلمان الذي يسيطرون عليه أقر التغيير، مما يعني أن ما يريده المخزن أو القصر ودوائره الحاكمة، هو الذي يمر بغض النظر عن حجم الكتلة النيابية في البرلمان المغربي.
وقد ساهمت هذه التغييرات في هزيمتهم بخاصة ما تعلق منها بخفض نسبة الأصوات المطلوبة للأحزاب الصغيرة (العتبة)، وعد الأصوات على أساس جميع الناخبين المؤهلين، بغض النظر عن مدى صحة الاقتراع الصحيح.
أدى التغيير الأول الى تفتيت الأحزاب واتساع دائرة الهوامش الحزبية التي تمتص قدرا من قواعد الاحزاب الصغرى، لاسيما في مجتمعات تسيطر عليها “نرجسية الفروق الصغيرة” كما أسماها فرويد.
والغريب أن نسبة المشاركة في المغرب في الانتخابات الاخيرة كانت 50.35% وهي نسبة أعلى من المشاركة عام 2016(43%)، وتعود نسبة الزيادة في رأيي الى سبب تقني، وهو الجمع بين الانتخابات التشريعية والمحلية معا في عام 2021، وهو جمع لا أظنه بريئا، وهو التغيير الثاني الذي قبل به حزب العدالة الاخواني.
هـ- إعلان التطبيع مع إسرائيل وتبادل الاعتراف الدبلوماسي معها، وتم ذلك تحت رايات حزب الإخوان المسلمين الحاكم، وهو ما نجح الملك فيه في كشف الحزب الإسلامي بانه حزب تعلو لديه كرسي السلطة على كرسي “الالتزام بالثوابت التي طالما كررها وربى جمهوره عليها”.
لقد عَبَرَ الملك بالإخوان المسلمين مرحلة الاضطراب (الربيع العربي) لأنهم شكلوا فيها ثقلا، لا مجال لغض الطرف عنه، وكان هذا العبور قائما على اساس “إشباع جوعهم وعطشهم للسلطة” الى حين، ثم يضعهم في بيئة لا تمكنهم من انجاز شيء هام، فينفض الشعب من حولهم.. وقد كان. فقد أعطاهم السلطة لحظة بدء إيناع “الربيع” ثم خلعهم منها لحظة ذبوله.
3- مدى انجازهم في المؤشرات العامة الكبرى:
أ-مؤشر الاستقرار السياسي: طيلة فترة حكم الاسلاميين في المغرب كان معدل الاستقرار السياسي سلبيا، ولو قسمنا فترة حكمهم الى مرحلتين من 2011 الى 2016 نجد أن معدل الاستقرار السياسي تحسن من 0.47 بالسالب الى 0.31 بالسالب، لكنهم في المرحلة الثانية من 2017-2021 عادوا بنتائج سياسية أدت لتراجع الاستقرار الى 0.37 بالسالب.. وهو ما يعني فشلا في نقل المجتمع السياسي المغربي إلى نقطة التوازن أو الحفاظ على مكاسب المرحلة الاولى على الأقل.
ب- أما في نطاق العولمة (والتي ينظرون لها بقدر من الريبة) فقد تقدموا فيها من معدل 67.27 عام 2011 الى 70.53 مع نهاية حكمهم.
ج- أما في مجال الديمقراطية والحريات فقد حققوا بعض التقدم، فخلال الفترة من 2011 الى 2020 انتقلوا من 3.83 من عشرة الى 5.04، وهو تقدم ملحوظ نقلها من دولة سلطوية الى دولة هجينة (سلطوية مع بعض ملامح الاسترخاء السياسي)، لكن هذا الانجاز لم يترك خلفه أسسا راسخة للاستمرار في اتجاه تعزيز الديمقراطية بدليل ان عدم الاستقرار السياسي عاد للارتفاع، وهو ما يعني أن المخزن (القصر وفسائله) عبر بالإخوان عنق الزجاجة توطئة للعودة للاتجاه الاعظم في سياسات المخزن الداخلية والاقليمية والدولية.
ثالثا: آفاق المستقبل:
1- ان تراجع عدد مقاعد الحزب الاخواني “العدالة والتنمية” من 125 الى 12 مؤشر خطر على فقدان “مصداقيتهم”، ويبدو لي أن ذلك يتسق من نتائج دراستي الأولى عام 1995 ودراستي الثانية قبل 6 سنوات، عن الاتجاه الاعظم لتراجع التيارات الاسلامية، وان هذا التراجع سيكون بأجلي صورة بين 2020 و2022.
2- إن الوضع في المغرب ذاهب طبقا للمؤشرات الاولى الى محو “أطلال الاسلاميين السياسية”، فرئيس الوزراء المغربي الجديد عزيز أخنوش ملياردير تقدر ثروته بحوالي 2 مليار دولار، وله استثمارات في مجالات الطاقة والبنوك والعقارات والسياحة.
بينما تمتلك زوجته (سلوى إدريسي) 50% من مراكز التسوق في المغرب من خلال “مجموعة المغرب مول”.
وقد قال أخنوش بوضوح لا لبس فيه: لقد أتيت لتنفيذ استراتيجية الملك”. فإذا أضفنا لذلك ما يزيد الاتجاه المستقبلي وضوحا ان السند الثاني لحكومة ما بعد الاسلاميين الحالية في المغرب، هو حزب الاصالة والمعاصرة الذي يقوده “مستشار الملك” فؤاد عالي الهمة، والذي لجم عدة مرات قرارات حكومة العدالة الاخوانية، ولعل القضية الأشهر هي قضية “مغتصب الأطفال الإسباني”، والتي تدل على أن حكومة الاخوان لم تكن قادرة على الحركة حتى في اقل القضايا شأنا الا من خلال المخزن او نخبته الحاكمة.
3- كان الانفاق الدفاعي المغربي عام 2011 (وصول الاسلاميين للسلطة) 3.297 من إجمالي الناتج المحلي، لكنه ارتفع في فترة حكم الاسلاميين الى 3.806 عام 2013 ثم الى 4.8 عام 2020، أي بزيادة حوالي 46% بين اول وصولهم للسلطة وبين خروجهم منها، وقد بلغ الانفاق حوالي 4 مليار و831 مليون دولار عام 2020.
وتتم هذه القفزات في السياسة الدفاعية، رغم ان معدل دخل الفرد المغربي هو 3.009 دولار عام 2020 هبوطا من 3.046 عام استلامهم للسلطة 2011.
أخيرا، أعترف ان احتمالات الخطأ السياسي او سوء التقدير أمر طبيعي عرفته كل الاحزاب والتيارات السياسية عبر التاريخ، لكن عدم الاقتناع بأنك لا تستطيع عبور النهر مرتين، كما يقول هيروقليطس، والتشبث بعدم القدرة على عبور النهر حتى مرة واحدة على راي زينون فيلسوف الرواقية هو خلل جلل.. وهو أمر يستوجب على حاملي الوجدان الشعبي والذاكرة التاريخية والارث الثقافي ان يعيدوا النظر في سياساتهم بخاصة خطابهم السياسي وبالأسس التي يتحالفون عليها مع غيرهم والتخلص من القبول بدور الاسفنجة بيد الانظمة والقبول بأن للعصر مقتضياته التي يجب فهمها أولا قبل التعامل معها… ربما.