أثار نشاط الدّبلوماسية الجزائرية قلق كل من المغرب والكيان الصّهيوني، اللّذين راحا يكيدان لضرب استقرار البلاد تارة بمحاولة افتعال أزمات داخلية وأخرى بالتّرويج لترهات التقسيم.
وقد أظهرت تحقيقات مصالح الأمن تورّط هذين الأخيرين في افتعال الحرائق التي التهمت مناطق واسعة من شمال شرق الوطن عن طريق المنظّمة الإرهابية “ماك”، وفضائح بيغاسوس للتّجسّس على مسؤولين جزائريّين، ما يعني وجود عمل منظم وممنهج لإلهاء الجزائر عن تأدية الأدوار التي تليق بها، وبتاريخها النّضالي إزاء القضايا العادلة، ودبلوماسيتها التي نجحت في حل أعقد الأزمات، باعتبارها “تهديدا للكيان الصّهيوني”، ومنافسا لنظام المخزن الذي يريد أن يتبوّأ ريادة المنطقة المغاربية ولو بالدوس على حقوق الضّعفاء.
عرفت الدّبلوماسية الجزائرية في السّنتين الأخيرتين نشاطا لافتا من خلال الخرجات المضطردة لوزير الخارجية السابق والحالي إلى مختلف دول العالم، وتعزيز علاقاتها مع المحور الجديد (الصين – روسيا) الذي برز بعد انتشار وباء كورونا، موقف الجزائر الثابت من القضية الفلسطينية وتصريح رئيس الجمهورية برفض الهرولة نحو التطبيع، وثبات موقفها من الصحراء الغربية الرافض لسيادة المغرب عليها رغم الاعتراف الأمريكي المزعوم المشروط بتطبيع الخيانة مع الكيان الصهيوني (طبعا كانت مجرّد تغريدة لرئيس انتهت ولايته، وقد تراجعت عنها الولايات المتحدة الأمريكية حسب ما صرّح به مساعد وزير الخارجية الأمريكية المكلّف بالشّرق الأوسط جوي هود، وأنّ حل القضية مرهون بتطبيق قرارات الأمم المتحدة)، وقوف الجزائر إلى جانب إسبانيا في أزمتها مع المغرب، ثم الوساطة الأخيرة حول أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا وهذه الأخيرة والسودان، هذه التحركات الجزائرية صدعت هندسة المحتل الصهيوني في إحداث شروخ في علاقات دول المنطقة في إطار سياسة فرّق تسد.
الوساطة في أزمة سد النهضة..
دخلت الجزائر على خط الوساطة في أزمة سد النهضة، بطلب من إثيوبيا، وهي أزمة أجّجها الكيان الصّهيوني لمحاصرة مصر، وضرب أمنها الوطني من خلال حرمانها من حصّتها من الماء الآتية أساسا من نهر النيل، وإشغالها بشأنها الداخلي أو دفعها للحرب مع جيرانها من أجل إضعافها أكثر. وأسفرت زيارة وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة إلى إثيوبيا شهر جويلية الماضي، عن فتح الطّرف الإثيوبي ملف سد النهضة، وطلبَ وزير الخارجية نائب رئيس الوزراء ديميكي ميكونين الأثيوبي من الجزائر أن تبلغ وجهة النظر الاثيوبية المتمثلة في احترام نصيب دولتي المصب السودان ومصر، وطلب من الجزائر أيضا أن تساهم بدور بناء في “تصحيح التّصوّرات الخاطئة حول سد النهضة”، إلى جانب التّوسّط لها مع السودان من أجل حل مشاكلهما الحدودية بالطرق السّلمية. كما أثمرت الزّيارة الاتفاق على إقامة تعاون متعدّد، وتعزيز الشّراكة على المستوى الإقليمي.
وجاءت الزّيارة في إطار رحلات مكوكية قادت رئيس الدبلوماسية الجزائرية إلى كل من ليبيا ومصر والسودان، هذه العودة القوية للجزائر في قضايا القارة الأفريقية أزعج الكيان الصهيوني، الذي عمل طيلة عقود على إيجاد موطئ قدم في القارة الإفريقية، ونجح في نسج علاقات مع عدد الدول بل والظفر باعتراف وتطبيع للعلاقات. ولعل ما يخيفه في هذه الحالة أزمة سد النهضة، هو السّمعة الطيبة التي تحفظها إثيوبيا عن الدبلوماسية الجزائرية، التي استطاعت إنهاء حرب طويلة الأمد بينها وبين أريتيريا، وتعتبر أبرز النجاحات نظرا للفترة.
وفي العام 2000، خرجت الجزائر من قوقعتها من خلال التّوسّط في النزاع المذكور، وقد بنت الجزائر تصوّرها في حل النّزاع على السلم كشرط جوهري للحل الدائم للنزاع، والعمل الجماعي باعتباره أساس النجاح، حيث أكّدت الجزائر من خلال ذلك أنّ حلول المشاكل الإفريقية يجب أن تكون إفريقية بعيدا عن التدخلات الخارجية التي تزيد الأمور تأزّما. وأنّ ما يحدث في القارة الإفريقية هو مسؤولية إفريقية، حيث يتعيّن على الدول الإفريقية أن تحتذي بنموذج الصلح المبرم بين الطرفين. ويعتبر الوصول إلى اتفاق بين الطّرفين الأثيوبي والأيريتيري بوساطة جزائرية وبمساهمة أطراف أخرى حدثا مهمّا، بالنظر إلى ما كانت تعيشه الجزائر آنذاك، وكانت هذه الوساطة سبيلا لعودة الدبلوماسية الجزائرية إلى الساحة الدولية.
رفض عضوية الكيان..
رفضت الجزائر صراحة منح الكيان الصهيوني صفة عضو مراقب في الاتحاد الإفريقي، وتعمل رفقة جنوب إفريقيا على منع حصول ذلك، من خلال مبادرة جزائرية جنوب إفريقية لحشد الصف الإفريقي للفظ هذا الدخيل الغاصب خارج مبنى الاتحاد الإفريقي. وأقدم رئيس مفوّضية الاتحاد الإفريقي، موسى فقي محمد، بصفة انفرادية على منحه صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، ورافق ذلك سجال بينه وبين وزير الخارجية الجزائرية، وقال إنّ إصرار رئيس المفوّضية على موقفه سيؤدّي إلى انقسام الاتحاد، وأنّ تصريحات فقي تعد بمثابة دفاع عن النفس دون معرفة عواقبها، وقال: “إنّ موقفه لن يؤثر على موقف الممثليات الدبلوماسية السبع التي تواصل العمل وتنسيق المواقف والمبادرات من أجل الوصول إلى الهدف المنشود”. كما أنّ القرار الذي اتّخذ دون مشاورات مسبقة مع جميع الدول الأعضاء لا يحمل أيّة صفة أو قدرة لإضفاء الشرعية على ممارسات وسلوكيات المراقب الجديد التي تتعارض تماما مع القيم والمبادئ، والأهداف المنصوص عليها في القانون التأسيسي للاتحاد الإفريقي.
وقد رفضت كل من الجزائر ومصر وجزر القمر وتونس وجيبوتي وموريتانيا وليبيا، تقدّمت معا بـ “مذكّرة شفهية لرئيس مفوّضية الاتحاد الإفريقي اعترضت فيها على قبول الكيان الصهيوني، وانضمت إلى موجة الرفض تسع دول إفريقية أخرى، وتضامنت دول عربية أخرى هي الكويت والأردن وقطر واليمن إلى جانب بعثة جامعة الدول العربية لدى أديس أبابا. وترفض الجزائر هذه العضوية لأنّه كيان محتل، ويمارس أبشع طرق القمع ضد شعب أعزل، ويرفض الالتزام باتفاقات السلام التي وقّعها في اتفاقيات أوسلو. ونجحت الجزائر في حشد الأصوات ضد القرار المنفرد لرئيس المفوّضية، من خلال برمجة جلسة ضمن جدول أشغال المجلس التنفيذي، للنّظر في التّحفّظات التي قدّمتها مجموعة الدول الأعضاء الرافضة لقرار منح الكيان الصهيوني صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي. من جهته دعا المرصد المغربي لمناهضة التطبيع إلى الاصطفاف وراء مبادرة الجزائر لطرد الكيان الصهيوني من الاتحاد الإفريقي.
توظيف صّهيوني للمخزن ضد الجزائر
لقد بلغ توظيف الكيان الصّهيوني للمغرب (ولا يمكن تسميته تحالف لأنّه لا يرقى إلى ذلك، بل مجرّد توظيف instrumentalisation) حد محاولة ضرب الوحدة الترابية للجزائر من خلال دعوة مندوب المغرب لدى الأمم المتحدة إلى استقلال منطقة القبائل، أثناء اجتماع دول عدم الانحياز الافتراضي بين 13 و14 جويلية الماضي، ردّا على موقف الجزائر الداعم لقضية الصحراء الغربية، التي تعتبر قضية تصفية استعمار ومسجّلة في اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ 1963 ضمن قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المحكومة ذاتيا، ما يعني أنّ الجزائر لم تخرج عن إطار القانون الدولي، بينما تدخل تصرّفات المغرب في إطار العمل العدائي والعدواني على سيادة الدول، دون نسيان فضيحة بيغاسوس وهو برنامج تجسّس صهيوني، التي تورّط فيها المغرب في التجسس على الجزائر.
إخضاع الكيان الصّهيوني للمخزن جعل منه لعبة يتحكّم فيها عن بعد ليدوس بها على كل القوانين الدولية وقواعد الدبلوماسية، فمنذ إعلان تطبيع الخيانة تغيّرت السياسة الخارجية لنظام المخزن، فأصبحت عدائية مع دول الجوار الجزائر والصّحراء الغربية وإسبانيا، وهي أعمال تصنّف في خانة أفعال الشروع في الحرب، حيث فتح حدوده مع مدينتي سبتة ومليلية المتنازل عنهما لإسبانيا، والدّفع بثمانية آلاف مهاجر بينهم ألف وخمسمائة قاصر، فضّلت إسبانيا الإبقاء عليهم عندها بسبب انتهاك المخزن حقوق الأطفال، وهو ما اعتبرته إسبانيا شروعا للحرب وتهديدا لأمنها القومي، وردّت على ذلك بنشر قوّاتها لأول مرة في المدينتين المذكورتين، بل وسلّمت زمام حراسة الحدود إلى الاتحاد الأوروبي عبر وكالته المتخصّصة، ما يعني أنّ أي اعتداء على السيادة الإسبانية هو اعتداء على الاتحاد الأوروبي ككل.
وتفجّر الخلاف بين الطّرفين نهاية السنة الماضية عندما اعترف الرّئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بسيادة مزعومة للمغرب على الصّحراء الغربية مقابل التطبيع مع إسرائيل، وعبّرت وزيرة الخارجية الإسبانية عن رفض بلادها قرار الاعتراف المزعوم، بالرّغم من الترحيب بقرار تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني، وعلّقت صحيفة “إلباييس” المقرّبة من دوائر صنع القرار الإسبانية على الحدث، أنّه “يعد انتهاكا للشّرعية الدولية التي تعترف بها الأمم المتحدة، وبادرة خاطئة تزيد من تعقيد إمكانية التوصل إلى حلول تفاوضية في نزاع منسي”، وأن ترامب اتّخذ “قرارًا خاطئا”، وأنّ “إسبانيا سلّمت الصّحراء الغربية بعد أن وعدت باحترام حق تقرير المصير للصّحراويّين، وهو الوعد الذي لم يتم الوفاء به”، هذا الموقف الإسباني أثار حفيظة المغرب الذي راح يناور بطرق لا تمت للأعراف الدبلوماسية بصلة.
موقف الجزائر كان واضحا من العمل المغربي، وقد دعّمت إسبانيا في موقفها، وهذا أثار حفيظة المغرب، إضافة إلى التقارب الجزائري الإسباني، ورغبة إسبانيا في فتح خطّ بحري لأغراض اقتصادية وسياحية، بعد غلق المغرب الحدود معها على خلفية “التّهريب الآتي من هناك”، حسب الرّواية المغربية، وتزامن الإجراء مع جائحة كورونا، حيث أغلقت جميع دول العالم حدودها، هذا الإجراء تسبّب في خنق الاقتصاد هناك، وعليه تبحث حكومة مليلية سبل إنعاشه بعيدا عن المغرب. وأشار مسؤولو المدينة إلى أنّ الجزائريّين سيتمتّعون بالمزايا نفسها التي يستفيد منها المغاربة من خلال الإعفاء من التأشيرة، في حال فتح الخط. يذكر أنّ المشروع يعود إلى العام 2002، عندما اندلع نزاع مغربي إسباني حول جزيرة “ثورة”، ووقفت الجزائر إلى جانب إسبانيا باعتبار أنّ حدود الجزيرة موروثة عن الاستعمار، ناهيك عن أعمالها القمعية ضد المواطنين الصّحراويّين في الأراضي المحتلة التي تفجّرت في حرب الكركرات.
دون نسيان موقف الجزائر من القضية الفلسطينية، الذي بقي ثابتا رغم تطبيع معظم الدول العربية، حيث قال الرئيس عبد المجيد تبون وبوضوح، إنّ الجزائر ترفض التطبيع، ومادام الكيان الصّهيوني لا يلتزم بحل الدولتين وقيام دولة فلسطين على حدود 67 وعاصمتها القدس الشّريف، فلا فائدة من التّطبيع، ولا داعي للهرولة، كما بقيت الجزائر تدفع ما عليها من التزامات مالية تجاه السّلطة الفلسطينية.
إنّ التّوظيف الصّهيوني للمخزن يهدف لمحاصرة الجزائر التي بدأت دبلوماسيتها تسترجع مكانتها تدريجيا على السّاحة الدولية، وتحوّلها من سياسة رد فعل إلى سياسة الهجوم للدفاع عن مصالحها في عالم يشهد تغيّرا في موازين القوى، بداية أفول قوى وظهور أخرى، عزّزها وباء كورونا، وتنويع الجزائر التّعاون مع القوّتين الصّاعدتين الصين وروسيا، بالتزامن مع الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول الغربية، والتزامها بالقوانين الدولية يجعلها في مأمن من أيّة مؤامرات تتيح التدخل الأجنبي عكس ما حدث لعدد من الدول العربية التي أُسقطت في فوضى الخراب العربي، لذلك يسعى الكيان الصّهيوني، الذي يعتبر الجزائر ثاني تهديد مباشر بعد إيران، إلى التّشويش على مسار الجزائر الرامي إلى استعادة مكانتها الدولية بما يليق وتاريخها ومجد دبلوماسيتها، غير أنّ كل محاولاته سقطت تحت أسوار الدّبلوماسية الجزائرية.