لا أعتقد ان أيّا من الباحثين في مجال الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية تفاجأ بالانسحاب الامريكي من أفغانستان.
لدي قائمة بثلاثين من أبرز العلماء والباحثين في الدراسات المستقبلية (أمريكيون وأوروبيون وروس وصينيون ومن العالم النامي) تنبأوا بهذه النتيجة في اطار نظرية “التراجع الامريكي العام”، (وهناك رسالة دكتوراة تمت مناقشتها مؤخرا في الجامعة الأردنية حول هذه النظريات، وكان لي شرف المساهمة في توجيه الطالبة)، بل إن الاستبيان الذي تم توزيعه في المؤتمر الذي عقد في عام 1989 في واشنطن على العلماء والباحثين في الدراسات المستقبلية في العلاقات الدولية، وكان عددهم 189 باحثا، اجابوا على أحد الاسئلة بالإجماع: كان هذا السؤال هو: هل تعتقد ان الولايات المتحدة تتراجع في مكانتها في النظام الدولي؟ وكانت الاجابة التامة هي “نعم”.
يبدو أن الانسحاب الامريكي من أفغانستان ليس منفصلا عن هذا الاتجاه الأعظم، الذي استند له الباحثون من جوانبه الاقتصادية والعسكرية والسياسية والاجتماعية، ومن يريد التحقق من ذلك عليه متابعة منشورات ” World Future Society خلال الثلاثين سنة الماضية.
ومن الضروري التنبه الى أن التراجع الأمريكي لن يكون خطيا، بل سيعرف بعض التذبذب، لكن اتجاهه الأعظم(Mega-trend) سيتواصل، وهو ما يستدعي التخطيط من قبل دول المنطقة وبخاصة العربية للتأقلم مع الحدث، وهوما بدأت اسرائيل وإيران وتركيا عمله، ومن يريد مزيدا من المعلومات حول هذا التأقلم ان يعود الى دراسات: معهد:
-Samuel Neaman Institute for National Policy Research
عنوان الدراسة: America’s Decline-Israel’s Trouble
أو كتاب James Petras وعنوانه -Zionism, Militarism and the Decline of US Power الصادر عام 2009، أو دراسة Eldad Shavit, Shimon Stein وعنوانها : Lesson in the Limits of Power: The Withdrawal of the United States and its Allies from Afghanistan الصادرة عن المعهد الإسرائيلي الهام :
The Institute for National Security Studies- في عام 2021،
يركز هذا المعهد على تأثير الانسحاب من افغانستان على العلاقة الامريكية الإسرائيلية، خاصة ضعف احتمال الاتكاء الاسرائيلي التقليدي على القوة الامريكية لتحطيم أو تحجيم خصوم إسرائيل (العراق.. ايران.. الخ)، الى جانب الاهتمام بالوزن الايراني في المنطقة وعلى دور الحركات الاسلامية في المنطقة.
أعود الآن الى التداعيات المباشرة والتداعيات غير المباشرة:
1- تزايد الطرق العربي على أبواب موسكو، نتيجة الإحساس أن موازين القوى الدولية في تحديد الاتجاهات العامة لسياسات القوى المركزية في المنطقة (ايران-إسرائيل- تركيا) قد بدأت تتغير، وان الشجرة التي استظلت بها الدول العربية المعتدلة بدأت أوراقها تتساقط تدريجيا، وهو ما يعني التقارب المحسوب للاستظلال بأشجار جديدة.
التعاقد على صفقة عسكرية سعودية روسية، وبحث ايصال الكهرباء الاردنية للبنان مع موسكو، وتزايد الخلل في الميزان التجاري للمنطقة لصالح الصين، وبقدر كبير ومتزايد، والمفاوضات الايرانية السعودية، وتبادل التهاني للرئيس الايراني مع دول الخليج، وإرسال السفن المحملة بالبترول الايراني (رغم الحصار الأمريكي) للبنان جهارا ونهارا ومع التهديد للولايات المتحدة وإسرائيل من أي اعتراض لها، والقلق من العودة الامريكية للاتفاق النووي مع ايران، والاتفاق الاستراتيجي الصيني الإيراني والتدريبات العسكرية المشتركة الروسية الايرانية مع دول آسيوية وسطى.. الخ، من متغيرات تدل على أن الانسحاب من أفغانستان يعزز هذا التحول، لكن هذا التحول سيسير على مهل، ويحمل في أحشائه أجنة تغيير في معادلات التحالف الاستراتيجي أو التكتيكي.
لقد دعوت في دراسة منشورة، وفي محاضرة في مدرج الجامعة الاردنية وفي الجمعية الفلسفية الاردنية قبل حوالي عامين، إلى أن على العرب أن “يستديروا شرقا قبل فوات الاوان”….
2- تشعر إسرائيل (طبقا لما يرد في دراساتهم) أن عليها ان تبحث عن السند الدولي للمرحلة القادمة؟ ومن هو؟ والى متى سيواصل الأمريكيون دعمهم لإسرائيل، بل إن بعض دراساتهم ترى أن اسرائيل قد لا تجد حليفا بوزن ومصداقية الولايات المتحدة في العلاقات معها.
3- الغريب أن العرب –بخاصة دول التطبيع المتأخر- بدأت تطبع مع إسرائيل وتستعدي إيران ظنا منها أن ذلك سيجعل الشجرة الامريكية اكثر ظلالا عليهم، ولم يقرأوا الواقع إلا بعد أن “اشتعلت لحاهم” على رأي شيمون شامير..
4- إن تأخر العرب في الاستدارة شرقا سيجعل موقفهم التنافسي مع الآخرين للعلاقة مع الشرق ضعيفا، فالعالم ينحاز لك بمقدار النسيج الذي تنسجه معه وليس “شهامة ونخوة عرب”، فليس مصادفة ان نسبة (أؤكد نسبة) التزايد للعلاقة بين اسرائيل والصين هي الأعلى مقارنة مع العلاقات الصينية مع دول المنطقة.
ولكن أرى ضرورة التنبه لما يلي:
أ- ان العلاقات الامريكية مع المنطقة ستكون أشبه بعلاقة امرؤ القيس مع عشيقته (فَسُليْ ثيابُكِ من ثيابي تَنْسُلِ”، أي انها ستتقلص بطريقة الانسلال لا التمزيق التام، وهو ما سيجعل البعض يرتبك في اختيار آلية الاستدارة..
ب- اعتقد أن بعض الدول ستحاول “تهدئة ” علاقاتها المضطربة مع بعض الحركات الاسلامية المعتدلة تدريجيا، وستتحلل هذه الدول من ارتباطاتها بمشروع راند (RAND) الخاص بالتيارات المعتدلة في الحركات الإسلامية.
ومن يريد المزيد عن هذه النقطة أنصحه بقراءة أطروحة الدبلوم العالي التي كتبها عبد الفتاح السيسي (الرئيس المصري الحالي) في كلية الحرب الأمريكية في بنسلفانيا عام 2006 وعنوانها(Democracy in the Middle East) وأشرف عليها الضابط الأمريكي ستيفن جيراس.
ج- أرى ان زمن التنظيمات المتطرفة في طريق النهاية، فطالبان “ستجبر قسرا أو طوعا” على الإنصياع، و”داعش” وفسائلها ستواجه تنسيقا محليا وإقليما ودوليا لخنقها، وستكون روسيا والصين والاتحاد الاوروبي وأمريكا صفا واحدا في هذه الجبهة تحديدا، وربما لن تكون إسرائيل مرتاحة لهذا التنسيق.
أتمنى:
أ- ان تشكل الدول العربية (ولو كل منها وحده) وحدات علمية لتحديد السياسات الأنسب لمرحلة ما بعد أمريكا.
ب- أن يفكر الاقتصاديون العرب في كيفية التحول من الدولة الريعية الى الدولة الإنتاجية.
ج- أن يتحول رجال الاعلام العربي من “شعراء قبيلة” الى نوافذ على العالم المعاصر.
د- الاستدارة شرقا استدارة استراتيجية لا تكتيكية، مع إدراك ان الشرق ليس جمعية خيرية، بل سيتعاملون معنا وهم يدركون أننا ذاهبون “مكره أخاك لا بطل”، ولكن هذه هي الحياة الدولية.. فكيف نعقلن تعاملاتنا؟
أخيرا.. أردد مع دريد بن الصمة:
أمرتهمُ أمري بمُنْـعَرَج اللِّوى *** فلم يَستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ