بموافقته تسليم عمر البشير، رئيس السودان السابق الذي أطاحت به انتفاضة شعبية عام 2019، يشكل السودان سابقة فريدة من نوعها، إذ يدفع بأول رئيس عربي سابق ليحاكم في لاهاي من طرف محكمة يشكك البعض في نزاهتها.
بعد أن ظلت تلاحقه لسنوات، تتمكن المحكمة الجنائية الدولية من تحقيق أولى خطواتها نحو جر رجل السودان السابق إلى لاهاي بهولندا، من أجل محاكمته على التهم الموجهة إليه، أبرزها ارتكاب “جرائم حرب” في إقليم دارفور.
وأعلنت وزيرة خارجية السودان، مريم الصادق المهدي، أمس أن السلطات السودانية وافقت على تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية.
وجاء الإعلان عقب لقاء جمع الوزيرة السودانية مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أسد خان الذي يزور السودان.
ونقلت وكالة الأنباء السودانية الرسمية “سونا” عن مريم المهدي قولها: “قرر مجلس الوزراء تسليم المطلوبين إلى الجنائية الدولية”، وأكدت على تعاون بلادها مع المحكمة ” لتحقيق العدالة لضحايا حرب دارفور”.
وسارعت الخارجية الأمريكية إلى الترحيب بقرار السودان، وقال المتحدث باسمها، نيد برايس في مؤتمر صحفي: ” إن فعل ذلك سيكون خطوة كبيرة للسودان في الحرب ضد عقود من الإفلات من العقاب..”
وأصدرت المحكمة مذكرتي توقيف بحق البشير، الأولى عام 2009 لارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الانسانية”، والثانية عام 2010 لارتكاب “إبادة” في إقليم دارفور، وذلك بعد أن أحال مجلس الأمن الدولي عام 2005 التحقيق في الجرائم التي ارتكبت في إقليم دارفور للمحكمة الجنائية.
وكانت أول مذكرة توقيف تصدرها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس دولة يمارس مهامه منذ تأسيسها في عام 2002.
رفض الاعتراف بقرارات المحكمة الجنائية
رفضت السلطات السودانية في السابق التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، مستفيدة من حصانة منصب الرئيس، ومن وجود رفض رسمي وشعبي لمسألة التدخلات الخارجية في شؤون البلد.
ولم يعترف البشير بقرارات المحكمة الجنائية، واعتبرها “أداة استعمارية” لاستهداف السودان والدول الإفريقية، وهو موقف شاطره فيه زعماء أفارقة وعرب.
وسافر بانتظام إلى بلدان في إفريقيا وفي المنطقة العربية، ورفضت الدول التي استضافته اعتقاله فوق أراضيها، وكانت أبرزها دولة جنوب إفريقيا التي كانت موقعة على ميثاق المحكمة الجنائية.
وأثارت الدماء التي سالت في إقليم دارفور غرب السودان استياء المجموعة الدولية، واتهم نظام البشير بارتكاب إبادة على أسس دينية وعرقية ضد أهالي الإقليم، لكنه نفى في السابق تورطه في تلك المجازر.
وجرت معارك دامية في إقليم دارفور الواقع غرب السودان منذ عام 2003 بين الجيش وحركات مسلحة تمردت على الدولة السودانية، واتهم نظام عمر البشير وقتها بإطلاق مليشيا الجنجويد في المنطقة للرد على من حملوا السلاح ضد نظامه.
ووفق أرقام الأمم المتحدة، أسفر القتال في دارفور عن مقتل 300 ألف شخص، ونزوح 2.5 مليون شخص.
متغيرات جديدة
غير أن مسار الأحداث في السودان سار على غير ما يشتيه عمر البشير، إذ اندلعت موجة احتجاجات شعبية بدأت بسبب نقص الوقود والخبز ، قبل أن تتحول سريعا إلى مطالب سياسية سقفها إسقاط النظام برمته.
وأطاح الجيش تحت ضغط الشارع بنظام البشير الذي امتد لـ30 عاما، وأوقف الرئيس وزج به في سجن كوبر المركزي في العاصمة الخرطوم، وصدر حكم بحبسه عامين بعد إدانته بالفساد المالي.
وتغيرت الأوضاع في مرحلة ما بعد نظام عمر البشير ، وجاءت قيادة جديدة وضعت على رأس أولوياتها تحسين صورة السودان على الساحة الدولية، وخاصة تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة.
وتشكلت حكومة تكنوقراط في إطار اتفاق لتقاسم السلطة بين العسكريين والمدنيين، لإدارة البلاد في الفترة الانتقالية.
وترأس الحكومة الخبير الاقتصادي عبد الله حمدوك، وأسندت وزارة الخارجية لمريم الصادق المهدي، وهي ابنة الصادق المهدي، زعيم المعارضة الراحل، ورئيس وزراء السودان السابق، الذي انقلب عليه البشير عام 1989.
وفي سياق المتغيرات الجديدة، وافقت الحكومة الانتقالية في السودان بداية الشهر الجاري على الانضمام إلى نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وأعلنت لاحقا قبول طلب على مثول البشر وبقية المطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وقبل ذلك وبالتحديد في 11 فيفري 2020، تم الاتفاق في جولة التفاوض في جوبا عاصمة جنوب السودان بين الحركات المسلحة الثورية ومتضرري الحروب في دارفور والنيل الأزرق ووفد الحكومة الانتقالية على مثول البشير ومساعديه.
و سبق للحكومة السودانية وأن تم تداولت من قبل مسألة تسليم البشير مع أطراف دولية.
والمطلوبون للجنائية الدولية هم: عمر البشير، ووزير دفاعه عبدالرحيم محمد حسين ووزير داخليته أحمد هارون، بجانب علي كوشيب الذي سلم نفسه وتجري محاكمته في لاهاي.
وتباينت آراء السودانيين شأن قرار تسليم الرئيس السابق، وبينما يقول محللون وسياسيون إن القرار سيفتح المجال أمام السودان للاستفادة من المساعدات الاقتصادية وإعفاء الديون. يرفضه آخرون، بحجة أن ذلك يمثل انتهاكا لسيادة السودان، باعتبار أنه كان رئيسا للبلاد والقائد العام للجيش.
وأثير الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي في السودان، بين رافض ومشكك في المحكمة الجنائية، وبين من يرى أن الخطوة ستؤدي إلى تحقيق العدالة لأهل دارفور.
اتمني اكون غير موفق في تحليلي لكن سوف يفتح باب عنف وسيلان دم جدييد واحتمال انقلاب عسكري علي المدني وربي احفظ السودان واكضب الشينة
— shami (@wadnaas) February 11, 2020
وكان الراحل حسن الترابي، زعيم حزب المؤتمر الشعبي المعارض، من أبرز مؤيدي تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، في حين حذر زعيم حزب الأمة، الراحل الصادق المهدي، في تصريح له من أن حدوث مثل هذا الأمر ” من شأنه أن يؤدى إلى مواجهات واضطرابات فى البلاد وفتح أبواب جهنم فى السودان..”
من هو عمر البشير؟
ولد عمر حسن أحمد البشير عام 1944 في قرية صغيرة تسمى “حوش بانقا”، وينحدر من قبيلة “البديرية الدهمشية” المنتشرة في شمال السودان وغربه.
تخرج من الكلية الحربية السودانية عام 1967، ونال ماجستير العلوم العسكرية بكلية القادة والأركان عام 1981، ثم ماجستير العلوم العسكرية من ماليزيا في عام 1983، وزمالة أكاديمية السودان للعلوم الإدارية عام 1987.
انضم البشير مبكرا إلى الجيش، ترقى في المناصب، وشارك في حرب 1973 بين العرب وإسرائيل إلى جانب الجيش المصري.
في 30 جوان 1989، قاد انقلابا أطاح بحكومة الصادق المهدي، وتولى منصب رئيس مجلس قيادة “ثورة الإنقاذ الوطني”، وخلال العام ذاته أصبح رئيسا للبلاد.
ودعمت البشير حينها “الجبهة الإسلامية القومية” بقيادة الراحل حسن الترابي، الذي بات لاحقا من أبرز معارضيه.
اعيد انتخاب البشير رئيسا للبلاد لمرتين عامي 2010 و2015، و في 11 أفريل 2019، أطاح به الجيش واعتقله، بعد أربعة أشهر على احتجاجات شعبية ضذه.
و في 21 جويلية 2020، بدأت أولى جلسات محاكمة البشير مع آخرين، بتهمة الانقلاب على حكومة الصادق المهدي عام 1989.